الأحد، 23 فبراير 2020

الفتح الاسلامي لبلاد الشام /بقلم الكاتب الاديب الراقي/الشاعر المبدع/د.صالح العطوان الحيالي

الفتح الاسلامي لبلاد الشام .... الجزء الثالث
ــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي -العراق- 7-1-2020
دمشق الفيحاء حلم طالما داعب خيالات وأمنيات المسلمين منذ أن خرجت أولى طلائع المسلمين للفتح ونشر الإسلام خارج الجزيرة العربية موطن الوحي ومهد الإسلام.
كانت دمشق التي حباها الله بجمال ساحر وطبيعة خلابة تأخذ بالألباب وتستحوذ على القلوب تتميز بمروجها الخضراء ومراعيها الخصبة وجناتها المثمرة ومياهها الصافية وغدرانها المتلألئة وحدائقها الغناء، وكأنها قطعة متجددة من الربيع الخالد والحسن الأبدي.
وقد حرص المسلمون على الإسراع إليها وفتحها، ولكن كيف السبيل إلى تلك المدينة المنيعة الحصينة التي اكتسبت مجدها وحضارتها منذ فجر التاريخ، وضربت بجذورها في أعماق الزمن السحيق، فهي من أقدم مدائن العالم، إن لم تكن أقدمها جميعا. وقد توالت عليها حضارات عريقة وعهود مجد تليد، وبلغت من التحصين والمنعة حدًا يفوق الخيال؛ فأسوارها العالية التي بُنيت من الحجارة الصلدة ترتفع إلى نحو 11 مترا، وتحيط بالمدينة من كل جانب، ويزيد سمكها على ثلاثة أمتار، وحصونها بالغة الارتفاع كثيرة الشرفات، يحتمي بها الرماة بسهامهم والمجانيق، ويحيط بأسوارها خندق عميق يزيد عرضه على ثلاثة أمتار، ولها أبواب منيعة ضخمة يُحكم إغلاقها من الداخل فكانت بقوتها وحصانتها تتحدى أطماع الغزاة، وتبدد أحلام الفاتحين.
بدأ تفكير المسلمين نحو فتح الشام يتخذ خطوات عملية منذ عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق؛ فقد سعى إلى تكوين جيش قوي يجمع صناديد العرب وأبطال المسلمين، وجعله في أربعة ألوية اتجهت إلى غزو الشام، جعل على أحدها أبا عبيدة بن الجراح، وعلى الثاني عكرمة بن أبي جهل، وعلى الثالث يزيد بن معاوية، وعلى الرابع عمرو بن العاص، وعيّن لكل لواء منها جهة يغزوها.
وعندما لقيت تلك الجيوش مقاومة شديدة من الروم اجتمعت على أمير واحد هو أبو عبيدة، فاستدعى أبو عبيدة خالد بن الوليد من العراق ليكون أميرا على جيوشه كلها، وتحرك خالد على رأس الجيش متوجها إلى الشام، فأقام شهرا على ضفة اليرموك دون أن يتعرض له الروم، وتوفي أبو بكر، وتولى عمر بن الخطاب الخلافة، فكان أول ما استفتح به عهده أن أمر بعزل خالد وتولية أبي عبيدة حينما رأى افتتان المسلمين بخالد، بعد الذي حققه من انتصارات، وما أذيع حوله من بطولات.
إنّ عدد ما فُتح في عهد الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من مدنٍ وأقاليم ومناطق وقرى صغيرةً وكبيرةً يزيد على الألفين، وقد هدم من الكنائس عدداً كبيراً، وبنى ما يزيد عن ألفي مسجد، ومن أهم فتوحاته؛ فتح دمشق، وكان فتح بعضها صُلحاً وبعضها الآخر عُنوةً، ومنها فتح بلاد الروم؛ وفيها طبرية وقيسارية وفلسطين وعسقلان وبيت المقدس الذي قام عمر -رضي الله عنه- بفتحه صُلحاً بنفسه، ومنها أيضاً فتح حمص وبعلبك وحلب وأنطاكيا والرقة وغيرهم، ومن بلاد العراق فُتح في عهد عمر كلٌّ من الموصل والقادسية والرها والمدائن حتى ذلّ للمسلمين مُلكُ الفرس كاملاً، كما فُتحت كور الأهواز ونهاوند وأذربيجان وبعض أقاليم خرسان، وفتح عمرو بن العاص مصر والإسكندرية وطرابلس الغرب وما يليها من الساحل، وكذلك اليرموك وبيسان والخابور، وصارت البصرة والكوفة معقلاً لجيوش المسلمين
فُتوحات الشَّام في عهد عُمربن الخطاب رضي الله عنه
ــــــــــــــــــ توجَّه المُسلمون إلى دمشق بعد أن فرغوا من أجنادين، عبر الجولان، ولمَّا وصلوا إليها ضربوا حولها حصارًا مُركزًا، فعسكر خالد تجاه دير صليبا، والذي عُرف فيما بعد بدير خالد، وهو على مسافة ميل من الباب الشرقي، وعسكر أبو عُبيدة على باب الجابية في حين نزل يزيد على جانب آخر من دمشق. ولم يشترك جيش شُرحبيل في الحصار ويبدو أنَّهُ بقي في الجنوب لِحماية مؤخرة المُسلمين. كان هرقل لا يزال يحشد قُوَّاته ويدعها لِقتال المُسلمين، فأرسل جيشًا بلغ تعداده خمسة آلاف مُقاتل لِمُساعدة أهل دمشق، وانضمَّ إليه عددٌ كبير من حامية حِمص. فاضطرَّ المُسلمون أن يُخفِّفوا الضغط عن دمشق، وساروا مُجددًا نحو مرج الصَّفر لاعتراض القُوَّة البيزنطيَّة التي لا بُد وأن تمُر من هذا المكان للوُصول إلى المدينة. وجرى قتالٌ بين الطرفين في 17 جمادى الآخرة 13هـ المُوافق فيه 18 آب (أغسطس) 634م أسفر عن انتصار المُسلمين. فقتلوا عددًا كبيرًا من الروم وفرَّ من نجا من المعركة في كُل اتجاه.
عزل خالد بن الوليد عن إمارة الجيش
ـــــــــــــــــــ عاد المُسلمون بعد انتهاء المعركة إلى دمشق. فنزل خالد على الباب الشرقي وأبو عُبيدة أمام باب الجابية، ويزيد على بعض أبوابها، وعمرو بن العاص على بابٍ آخر، وجاءهم، وهم على هذه الحال منجمة بن زُنيم رسولُ عُمر بن الخطَّاب يحملُ رسالة تتضمَّن نعي الخليفة أبي بكر الذي توفي مساء الثُلاثاء في 21 جمادى الآخرة 13هـ المُوافق فيه 22 آب (أغسطس) 634م، ومُبايعة عُمر، وتضمَّن أيضًا عزل خالد بن الوليد عن إمارة جُيوش الشَّام وتعيين أبي عُبيدة بدلًا منه. لكن هذا الأخير أخَّر إعلان خبر العزل لِأنَّ المُسلمين كانوا في صدد تحضير فتح دمشق، ولم يشأن أن يُحدث هذا التبديل أيَّ بلبلةً في صُفوف الجيش الإسلامي. ولِهذا كان هُناك نوعٌ من الإزدواجيَّة في الإمارة على الجيش لدى مُحاولة فتح دِمشق. واختلف المُؤرخون والباحثون في تحديد أسباب عزل خالد بن الوليد عن إمارة الجُيوش، وهو القائدُ الفذ الذي حقَّق للمُسلمين انتصاراتٍ باهرة في حُرُوب الرِّدَّة وفي معارك فتح العراق ومن بعدها الشَّام، وذلك في ظُروفٍ صعبةٍ جدًا، فقيل أنَّ الدَّافع كان ضغينة قديمة من جانب عُمر تجاه خالد، وقيل أنَّ عُمر قلق من تعلُّق المُسلمين بشخص خالد بعد أن انتصر في المعركة تلو الأُخرى، فعظمهُ النَّاس، فقام عُمر بعزله كي يُظهر للناس أنَّ النصر يأتي من عند الله وأنَّ الله ينصر الإسلام وليس أشخاصٌ مُعينين بذاتهم، وقيل أخيرًا أنَّ العزل جاء نتيجة عناد خالد وتصرُّفه بالمال وغنائم الحرب، فكان يُعطيه لِذوي البأس والشرف والفُصحاء من الشُعراء ولا يُعطي لِفُقراء المُسلمين وضُعفائهم شيئًا، فعزلهُ عُمر كي يحفظ أموال المُسلمين وتُوزَّع بالعدل على النَّاس. وفي جميع الأحوال يبدو أنَّ خالد تلقّى خبر العزل بِهُدوء عندما أُعلم به لاحقًا، فخاطب المُسلمين قائلًا: «بُعِثَ إِلَيْكُمُ أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ
يَقُوْلُ: "لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ"». فقال أبو عُبيدة: «سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ
يَقُوْلُ: "خَالِدٌ سِيْفٌ مِن سُيُوفِ الله، نِعْمَ فَتَى العَشِيْرَةِ"».
معركة فحل - بيسان
ــــــــــــــــــــــ انسحبت فُلول القُوَّات البيزنطيَّة بعد معركة أجنادين إلى دمشق، وتحصَّنت فيها، في حين عاد تذارق، أخو هرقل، إلى القُسطنطينيَّة. وكان الإمبراطور يُتابع تطورات الموقف العسكري، فأمر بتجميع القُوَّات البيزنطيَّة المُنتشرة في جنوبي الشَّام، في فحل - بيسان الواقعة على الطريق بين الأُردُن ودمشق، وأرسل في الوقت نفسه جيشًا من حِمص يُقدَّر بِعشرة آلاف مُقاتل باتجاه دمشق، وذلك بِهدف الإطباق على المُسلمين من الجنوب والشمال، والقضاء عليهم وإنقاذ دمشق المُحاصرة من قِبلهم، ثُمَّ غادر حِمص إلى أنطاكية. ولمَّا بلغ الجيش بعلبك، وصل نبأ هزيمة البيزنطيين في مرج الصَّفر، فتوقف الزحف، واستقرَّ العساكر في المدينة، وكتب القائد إلى هرقل ينتظرُ تعليماته. نتيجةً لِهذه التطوُّرات العسكريَّة، عقد أبو عُبيدة وخالد اجتماعًا تشاورا فيه بشأن كيفيَّة الخُروج من هذا المأزق، فتقرَّر أن يُهاجم خالد القُوَّة البيزنطيَّة المُتمركزة في بعلبك لِمنعها في التقدُّم ومُساعدة القُوى البيزنطيَّة في جنوبي الشَّام، ومن جهةٍ أُخرى، تلقَّت قيادة الجيش البيزنطي في بعلبك أمرًا من هرقل بالتقدُّم إلى الجنوب والانضمام إلى القُوَّة المُتمركزة في فحل - بيسان. وعندما وصل خالد إلى بعلبك على رأس خمسة آلاف مُقاتل، لم يجد فيها الجيش البيزنطي، وأُخبر بأنَّ أفراده توجهوا إلى الأُردُن، فأغار على نواحي المدينة وعاد إلى أبي عُبيدة أمام دمشق فأخبرهُ الخبر، وتشاور معهُ في الأمر، فتقرَّر أن يسير أبو عُبيدة بِجُموع المُسلمين إلى فحل - بيسان لِضرب القُوَّة البيزنطيَّة المُتمركزة هُناك، وأن يتقدَّم خالد الجيش كطليعة، على أن يبقى يزيد بن أبي سُفيان حول دمشق.
توافد المُسلمون إلى فحل - بيسان، وانحاز إليهم بعضٌ من نصارى العرب من لخم وجُذام وغسَّان وعاملة والقين وقضاعة، بعد أن أدركوا أنَّ كفَّة الصراع بدأت تميل لِصالح بني جلدتهم من عرب شبه الجزيرة، وإن كانوا على دينٍ مُختلف، وتردَّد مسيحيو فحل في الانضام إلى الجيش الإسلامي. وحشد البيزنطيون زهاء ثمانين ألفًا بِقيادة سقلار بن مخراق (ثُيودور السقلاريّ)، ودمَّروا سُدود الأنهار الغربيَّة لِعرقلة تقدُّم المُسلمين وخشيةً من أن يُفاجئوهم، فامتلأت الأرض بالماء من بيسان إلى فحل. وعلى الرُغم من ذلك، فقد تقدَّم المُسلمون نحو البيزنطيين، ونفذوا غارات خاطفة سريعة على القُرى والرساتيق والزُروع في وادي الأُردُن ومرج ابن عامر ووادي نهر الجالود، فقطعوا بذلك مصادر التموين والمدد عنهم. ويبدو أنَّ عرب الأُردُن تضايقوا، وأرادوا أن يحموا أنفُسهم، فاجتمع زعيمهم ابن الجُعيد بِأبي عُبيدة وصالحهُ على سواد الأُردُن. وحاول البيزنطيّون التفاهم مع المُسلمين لِتفادي وُقوع اشتباكٍ بينهم، فعرض القائد الرومي التنازل عن إقليم البلقاء وتلك المنطقة من الأُردُن التي تتصل بشبه الجزيرة العربيَّة، مُقابل انسحاب المُسلمين، فرفض المُسلمون هذا الاقتراح. ولجأ سقلار إلى سِلاح الرِشوة، فعرض على أبو عُبيدة أن يمنح كُل جُندي مُسلم دينارين مُقابل الرحيل، فرفض أبو عُبيدة هذا العرض أيضًا. وعبَّأ الطرفان قُوَّاتهما استعدادًا للقِتال، واشتبكا في رحى معركةٍ ضارية انتهت بانتصار المُسلمين، فقذفوا البيزنطيين في الوحول التي حاولوا هُم قذفهم فيها، وقُتل منهم ما يُقارب عشرة آلاف مُقاتل كان سقلار من بينهم، وتفرَّق من نجا في مُدن الشَّام، ولحق بعضهم بِهرقل في أنطاكية. فتحت هذه المعركة الطريق أمام المُسلمين، فسيطروا على جميع مُدن وقُرى إقليم الأُردُن بِسُهولة، مثل بيسان وطبريَّا، واضطرَّ السُكان إلى طلب الأمان، وكُتبت عُهودُ الصُلح في كُل مكان بِمنح الأمان على أرواح المغلوبين وأموالهم وأراضيهم وكنائسهم ومعابدهم مُقابل الجزية.
معركة مرج الروم
ــــــــــــــــــــ عندما بلغت أخبار هزيمة الجيش البيزنطي في فحل - بيسان مسامع هرقل، عقد مجلسًا عسكريًّا ضمَّ مُعظم قادته للتشاور. ووفد عليه أثناء الاجتماع وفدٌ من أهل قيسارية وبيت المقدس يُخبرونهُ بِتمسُّكهم بِأمره وبِإقامتهم على طاعته وبِخلافهم للمُسلمين، ويطلُبون منه المدد والمُساعدة، فقرَّر حينئذٍ أن يستمر في الحرب، وأرسل جيشين لِوقف الزحف الإسلامي إلى دمشق وحِماية حِمص، وعيَّن عليهما اثنين من خيرة قادته هُما «توذر» و«شنس»، وقد سارا في طريقين مُنفصلين. وصل الأوَّل إلى مرج دمشق وغربها وعسكر هُناك، في حين عسكر الثاني في مرج الروم (سهل البقاع اللُبناني). وكان أبو عُبيدة قد وصل إلى دمشق قادمًا إليها من فحل، فقسَّم جيشهُ إلى قسمين قاد هو القسم الأوَّل على أن يصطدم بِجيش شنس، وعيَّن خالدًا على القسم الثاني على أن يصطدم بِتوذر. وعندما وصل خالد إلى مكان جيش توذر لم يجده، إذ كان قد غادر المكان تحت جُنح الظلام. ويبدو أنَّ هذا الانسحاب كان وفق خطَّةٍ عسكريَّةٍ مُبيَّتة تقضي بأن ينهمك المُسلمون بِقتال جيش شنس في مرج الروم في الوقت الذي ينطلق فيه جيش توذر إلى دمشف لِفك الحِصار عنها. فطِن خالد لِهذه الخطَّة، فطلب من أبي عُبيدة أن يسمح لهُ بِمُطاردة توذر الذي كان يتقدَّم مُسرعًا على طريق دمشق لِيُباغت القُوَّة الإسلاميَّة هُناك بِقيادة يزيد بن أبي سُفيان، وعندما علِم هذا الأخير باقتراب القُوَّات البيزنطيَّة، استعدَّ لِلقائها، واشتبك معها. وصل خالد والمعركة دائرة، فوقع الجيش البيزنطي بين فكيّ الكمَّاشة، ودارت الدائرة على أفراده، وقتل خالد توذر وغنِم المُسلمون دواب الروم وركائبهم وأدواتهم وثيابهم. عاد يزيد بعد انتهاء المعركة إلى دمشق لِيستأنف حِصارها، في حين عاد خالد إلى أبي عُبيدة، فألفاهُ قد اشتبك مع جيش شنس بِمرج الروم وانتصر عليه، وقُتل شنس، وفرَّ من نجا من الروم إلى حِمص، فطاردهم أبو عُبيدة.
فتح دمشق
ــــــــــــــ استأنف المُسلمون حِصار دمشق بعد عودتهم من الأُردُن، فأخذوا الغوطة وكنائسها عنوةً، وتحصَّن أهلُ المدينة وأغلقوا بابها، وقد أملوا بوُصول نجدة من الشمال على وجه السُرعة تفُك الحصار عن المدينة. وتوزعت مهام الحِصار كما يلي: نزل أبو عُبيدة على باب الجابية، وخالد بن الوليد على الباب الشرقي ويزيد بن أبي سُفيان على باب كيسان وعمرو بن العاص على باب الفراديس وشُرحبيل بن حسنة على باب توما. وعمد أبو عُبيدة إلى عزل المدينة عمَّن حولها، وقطع اتصالاتها مع العالم الخارجي حتَّى يُجبر حاميتها على الاستسلام، فأرسل ثلاث فرق عسكريَّة تمركزت إحداها على سفح جبل قاسيون، على مسافة خمسة كيلومترات إلى الشمال من المدينة عند قرية برزة، والثانية على طريق حِمص للحُؤول دون وُصول الإمدادات من الشمال وقطع الاتصالات بينها وبين القيادة البيزنطيَّة، والأخيرة على الطريق بين دمشق وفلسطين لِقطع طريق الجنوب. وطال أمدُ الحِصار على الدمشقيين، الذي دام سبعين ليلة، وقيل أربعة أشهر، وكذلك ستة أشهر، وازداد التوتُّر بينهم، وبخاصَّةً بعد أن انسحبت الحامية البيزنطيَّة من مواقعها تاركةً للدمشقيين تدبُّر أمرهم بِأنفُسهم، ولمَّا يئسوا من حُصول نجدة تُنقذهم وتُجلي المُسلمين عن مدينتهم؛ وهنت عزيمتهم، ومالوا إلى الاستسلام.
تتباين روايات المصادر في وصف أيَّام دمشق الأخيرة قبل دُخول المُسلمين إليها، وفي تحديد كيفيَّة هذا الدُخول. فقد ذكر البلاذري أنَّ أبا عُبيدة دخل المدينة عنوةً من باب الجابية، ولمَّا رأى الأُسقف منصور بن سرجون أنَّهُ قارب الدُخول، بادر إلى خالد فصالحهُ وفتح لهُ الباب الشرقي، فدخل الأُسقف معهُ ناشرًا كِتاب الصُلح، والتقى خالد مع أبي عُبيدة بالمقسلَّاط، وهو موضعُ النحَّاسين بدمشق، فتحدَّث بعضُ المُسلمين في ذلك مُعترضين على عدم جواز صُلح خالد كونه ليس أمير الجيش، لكنَّ أبو عُبيدة أجازه قائلًا أنَّهُ يُجيزُ على المُسلمين أدناهم، فأمضى الصُلح ولم يلتفت إلى ما فُتح عُنوةً، فصارت دمشق كُلَّها صُلحًا، وكتب بذلك إلى عُمر وأنفذه. وروى الطبري أنَّ خالدًا اقتحم المدينة فاستيقظ السُكَّانُ مذعورين على جُند المُسلمين يلِجونها ويُمعنون في الجُنود الروم تقتيلًا، ففتحوا أبواب مدينتهم للفرق الإسلاميَّة الأُخرى والتجأوا إلى أبي عُبيدة يعرضون عليه الصُلح، فقبل عرضهم. ودخل كُلُّ قائدٍ من الباب الذي هُو عليه صُلحًا باستثناء خالد فقد دخل عنوةً. وكان صُلحُ دمشق على المُقاسمة على الدينار والعقار وعلى جزية دينار عن كُلِّ رأس لِأنَّ جانبًا من المدينة فُتح عنوةً، فكان كُلَّهُ حقًا للمُسلمين، في حين فُتح جانب منها صُلحًا فوجبت عليه الجزية دون سواها. لِذلك أخذ المُسلمون نصف ما في المدينة من كنائس ومنازل وأموال بِحُكم الفتح عنوةً وفرضوا الجزية بحُكم الفتح صُلحًا، بحسب ابن كثير. وأخذ المُسلمون سبع كنائس من أصل أربع عشرة القائمة بدمشق، كما اقتسموا الكنيسة الكُبرى، وهي كاتدرائيَّة القدّيس يوحنَّا المعمدان، مع الدمشقيين، فتركوا نصفها للمسيحيين يُقيمون فيه صلواتهم، وجعلوا النصف الآخر مسجدًا جامعًا، كما جاء عند ابن كثير.
فتح بعلبك
ــــــــــــ امضى المُسلمون فصل الشتاء في دمشق. وكانت الخطوة التالية فتح حِمص. فقد كان هرقل مُقيمًا فيها أثناء حِصار دمشق، فلمَّا رأى أنَّ قُوَّاته لا تستطيع الوصول إلى عاصمة الشَّام للدفاع عنها جلا عن حِمص إلى أنطاكية ويربط دمشق وحِمص طريقان، أحدهما شرقيّ خارجيّ مُتاخم لِصحراء السماوة ويمُرُّ بِدوما وقطيف والنبك وقارا وشمسين وُصولًا إلى حِمص، والآخر غربي ويمُرُّ في سهل البقاع إلى بعلبك وجوسية وحِمص، ويُشكِّلُ أحد فُروع طُرق التجارة الشرقيَّة الذي يمُرُّ بِوادي العاصي، وكانت تسلُكهُ الفرق العسكريَّة والبريد. وهذا يعني أنَّهُ كان الأكثر استعمالًا. واختار خالد، بعد مُشاوراتٍ مع أبي عُبيدة، أن يسلك المُسلمون الطريق الثاني، بهدف السيطرة عليه نظرًا لِأهميَّته العسكريَّة. استخلف أبو عُبيدة قبل أن ينطلق إلى حِمص، يزيد بن أبي سُفيان على دمشق وعمرو بن العاص على فلسطين وشُرحبيلًا بن حسنة على الأُردُن، وسار إلى سهل البقاع يتقدمهُ خالد. ولمَّا اقترب من بعلبك تصدَّت له قُوَّة عسكريَّة فتغلَّب عليها وأجبر أفرادها على الارتداد والاحتماء داخل الحصن. وضرب المُسلمون الحِصار على بعلبك، ولمَّا رأى سُكَّانها ألَّا أمل لهم في الانتصار استسلموا في 25 ربيع الأوَّل 15هـ المُوافق فيه 6 أيَّار (مايو) 636م، فأعطاهم أبو عُبيدة الأمان على أنفُسهم وأموالهم وكنائسهم وكتب لهم كتابًا بذلك ومنحهم مُدَّة شهرين، فمن أراد المُغادرة سار إلى حيثُ شاء، ومن أقام ورغب بالبقاء على دينه فعليه الجزية ولمَّا دخل المُسلمون بعلبك وجدوها مدينة مُتنوعة الأعراق، فقد سكنها الرُّومُ وهُم رُعاة الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة الحاكمة، والفُرس وهُم من بقايا الجُنود والإداريين الذين أخضعوا الشَّام لِحُكمهم أثناء صراعهم مع البيزنطيين وقد استقرَّ الكثير منهم، والعربُ والسُريان وهُم السُكان الوطنيون من أهل بعلبك، ومنهم النبط.
فتح حِمص
ــــــــــــ كانت مدينة حِمص في النصف الأوَّل من القرن السَّابع الميلاديّ، أي قبل الفتح الإسلاميّ، مركزًا إداريًّا هامًّا، كما كانت قاعدة هرقل، يُرسلُ منها الجُيوش لِمُحاربة المُسلمين في الجنوب، ويُديرُ منها العمليَّات العسكريَّة. سار أبو عُبيدة بعد فتح بعلبك إلى حِمص، ولمَّا وصل إلى ضواحيها تصدَّت له قُوَّة عسكريَّة في جوسية، على بُعد ستَّة فراسخ منها بين جبل لُبنان وجبل سنير، فوجَّه إليها خالدًا، فاشتبك مع أفرادها وهزمهم، فولّوا الأدبار ودخلوا المدينة. وكما امتنعت دمشق على المُسلمين فاضطرّوا لِحصارها، كذلك كان حالهم مع حِمص التي أغلقت أبوابها في وجههم. كانت القُوَّة المُدافعة على المدينة تأمل في تلقّي دعمٍ سريعٍ من جُيوش الإمبراطوريَّة. والواقع أنَّ هرقل أرسل إلى أفراد الحامية يعدُهم بالمُساعدة ويُشجعهُم على المُقاومة، لكنَّ هذه الوُعود لم تتحقَّق حيثُ كان من الصعب على الإمبراطور البيزنطي أن يجمع جيشًا على وجه السُرعة ويقذف به في المعركة نجدةً لِحمص. عند ذلك أمل هؤلاء أن يُجبر البرد وقساوة الطقس المُسلمين على التراجع، ويبدو أنَّهم انقسموا إلى فئتين: مالت الأولى إلى التفاهم مع المُسلمين بِفعل قُوَّتهم الكبيرة التي هزمت الروم في أكثر من مُناسبة وعجز البيزنطيين عن إمدادهم بالمُساعدة، وأصرَّت الثانية على الاستمرار في المُقاومة والصُمود. ويروي الطبريّ أنَّ بعض الحِمصيين صالح على صُلح أهل دمشق على دينارٍ وطعامٍ على كُلِّ جُريبٍ أبدًا أيسروا أم أعسروا، وصالح بعضُهم على قدر طاقته، فإن زيد حاله زيد عليه وإن نقص نُقص. وطال أمدُ الحِصار على أهل حِمص، وساءت حالتهم، وخشوا على أنفُسهم من السبي إن فُتحت مدينتُهم عِنوة. ووقع، في هذه الأثناء، زلزالٌ في المدينة أدَّى إلى تدمير بعض البُيوت والمُنشآت، وألحق أضرارًا أُخرى بالسُّكَّان، في الوقت الذي تجاوز في المُسلمون الأوضاع المُناخيَّة؛ الأمر الذي أدَّى إلى التوافق بين الحامية البيزنطيَّة والسُّكَّان إلى طلب الصُلح، فنالوه وكتب لهم المُسلمون عهدًا بِعدم التعرُّض لهم في حياتهم وأملاكهم ودورهم وأماكن عبادتهم لِقاء الجزية. وساير المُسلمون مشاعر الحِمصيين إلى حدٍ بعيد، فلم يدخُلوا المدينة بل نصبوا خيامهم بالقُرب منها على ضِفاف نهر العاصي. وكتب أبو عُبيدة إلى عُمر في المدينة المُنوَّرة يُخبره بما حصل، ويُعمله بأنَّ الجيش الإسلامي سيتوجَّه نحو الشِمال لِمُطاردة هرقل.
فُتوح الشَّام الوُسطى .
ـــــــــــــ كان أبو عُبيدة قد خطَّط لاستئناف التوسُّع نحو الشمال حيثُ بات الطريق مفتوحًا أمامه، وتشاور مع خالد في ذلك فاستقرَّ الرأي على فتح منطقة شمالي الشَّام بما فيها أنطاكية وحلب ومُطاردة الإمبراطور البيزنطي. فأرسل ميسرة بن مسروق العبسي إلى حلب، في حين خرج هو من حِمص لاستكمال فتح قِطاعها واصطحب معه خالدًا، واستخلف عبادة بن الصامت على المدينة، فوصل إلى حماة فصالحهُ أهلها على الجزية في رؤوسهم، والخِراج على أرضهم. ومضى نحو شيزر فخرج أهلها وصالحوه على ما صالح به أهلُ حماة. وتابع تقدُّمه حتَّى بلغ معرَّة النُعمان ففتحها، ثُمَّ أتى أفاميا فأذعن لهُ أهلها بالجزية والخِراج. وبهذه الفُتوح أتمَّ المُسلمون فتح الشَّام الوُسطى. كان من رأي عُمر أن يستقر المُسلمون في حِمص حتَّى نهاية الحول قبل أن ينطلقوا نحو الشمال، لِذلك استدعى أبو عُبيدة ميسرة ووزَّع قُوَّاته على مُختلف نواحي الشَّام لِضبط أُمورها بعد أن استتبَّ الوضعُ الميدانيُّ لِلمُسلمين، ولِيُعطوا سُكَّان البلاد طابع الدولة الجديدة. واستقرَّ هو في حِمص وأرسل خالدًا إلى دمشق لِيُقيم بها، وكلَّف عمرو بن العاص أن يُقيم في فلسطين. وهكذا توقفت حركة الفُتوح في الشَّام تلك السنة.
معركة اليرموك
ــــــــــــــــ حشد هرقل جيشًا ضخمًا يضُمُّ مائة وعشرين ألفًا من الجُنود من مُختلف الولايات البيزنطيَّة، منهم فرقة من العرب المسيحيّون تُقدَّر بإثني عشر ألفًا من الغساسنة ولخم وجُذام بِقيادة جُبلة بن الأيهم، وفرقة من أرمينية تضُمُّ أيضًا اثني عشر ألفًا بِقيادة جُرجة بن توذار، وكتب إلى روما عاصمة الإمبراطوريَّة الرومانيَّة الغربيَّة يطلب نجدة عاجلة تُساعده على التخلُّص من موقفه العصيب، وكان ذلك في الواقع رغبةً منهُ في تحقيق انتصارٍ على المُسلمين يُعيد إليه هيبته وإلى الإمبراطوريَّة مكانتها، وإجلاء أعدائها عن الشَّام واستردادها ونزل الروم بين دير أيّوب واليرموك، وكانوا بِقيادة تذارق (ثُيودور) أخو هرقل يُساعدهُ القائد الأرمني ماهان وسقلاب الخصيّ. علِم أبو عُبيدة بواسطة الجواسيس التي بثَّها بين البيزنطيين بهذا الحشد الضخم، فتشاور مع قادته وتقرَّر أن يُغادر المُسلمون حِمص إلى دمشق كونها أقرب إلى حُدود شبه الجزيرة العربيَّة فيما لو اضطرّوا إلى الانسحاب، وأرسل أبو عُبيدة إلى عُمر يُخبره بذلك، فأمدَّهُ بِقوَّة عسكريَّة جديدة بِقيادة سعيد بن عامر الجمحي. وعقد القادة اجتماعًا آخر في دمشق قرَّروا فيه الصُمود والمُقاومة على أرض الشَّام. وفوَّض أبو عُبيدة في هذه الأثناء سُلطاته إلى خالد، إذ كان أقدر القادة على تحمّل مسؤوليَّات المُهمَّات الصعبة. وصل المُسلمون إلى اليرموك فوجدوا البيزنطيين قد سبقوهم إليه، فنزلوا عليهم بحذائهم وعلى طريقهم، إذ ليس للبيزنطيين طريقٌ إلَّا عليهم. بلغت قُوَّة المُسلمين ما بين ستة وثلاثين ألفًا إلى أربعين ألفًا، وقيل ستةٍ وأربعين ألفًا، مُقسَّمة على أربعة ألوية على رأس كُلٍ منها أمير .. وعندما تواجه الجمعان في سهلٍ فسيح شمال اليرموك يُعرف بالواقوصة، أدرك خالد بن الوليد أهميَّة هذه المعركة الفاصلة في حرب الشَّام، وأظهر حِنكةً عسكريَّةً عبر مُحاولته توحيد الألوية الأربعة تحت قيادةٍ واحدة، فخطب في الأُمراء داعيًا أيَّأهم إلى توحيد إمارة الجيش تحت قيادته، لأنَّ هذه المعركة إمَّا ستفتح على المُسلمين أبواب الشَّام على مصراعيها، أو لن يُفلحوا بعدها أبدًا إن هُزموا. وهكذا ولّى أُمراء الألوية الأربعة عليهم خالد بن الوليد في ذلك اليوم، وهُم يظنون أنَّ المعركة ستستمر أيَّامًا وليالي. بدأ المُسلمون القِتال عندما أمر خالد بن الوليد مُجنبتا قلب الجيش بِقيادة عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو التميميّ بالهُجوم، فاخترق الزُبير بن العوَّام صُفوف الروم مرتين، ثُمَّ حملت ميسرة الروم على ميمنة المُسلمين فانهزم عمرو بن العاص وانكشف شُرحبيل بن حسنة وأصحابه، فحاول البعض منهم الفرار، ونادى عكرمة بن أبي جهل يُبايعُ على الموت فلحق به عمُّه الحارث بن هشام وضرَّار بن الأزور في أربعمائة من الجُنود المُسلمين يُقاتلون حتّى الموت أمام فسطاط خالد بن الوليد، فقُتل مُعظمهم. ثُمَّ حمل خالد بن الوليد على ميسرة الروم ففرَّق شملهم، وانضمَّ إليه القائدُ الأرمنيّ جُرجة مُعلنًا إسلامه. ثُمَّ كرَّ الروم على المُسلمين فتصدّى لهم خالد ومعهُ جُرجة الذي قُتل، فتراجع الروم. فزحف خالد بِقلب الجيش مُخترقًا صُفوف البيزنطيين ففرَّت الخيَّالة منهم تاركين المُشاة أمام الجيش الإسلامي، واقتحم خالد عليهم خندقهم، فتراجع الروم تحت جُنح الظلام إلى سهل الواقوصة حيثُ أمعن المُسلمون فيهم قتلًا حتَّى هُزموا. وقُتل من الروم في هذه المعركة حوالي الستين ألفًا، وقُدِّرت خسائر المُسلمين بِثلاثة آلاف قتيل منهم عدد من الصحابة مثل عكرمة بن أبي جهل وابنه عمرو وسلمة بن هشام وعمرو بن سعيد بن العاص وهشام بن العاص وعمرو بن الطُفيل. وانحاز جُبلة بن الأيهم ومن معهُ من العرب المسيحيّون إلى بني قومهم العرب المُسلمون، ثُمَّ أظهر الإسلام هو وجماعةٌ من قومه الغساسنة. وكانت هذه المعركة من المعارك الحاسمة في الصراع الإسلامي - البيزنطي، إذ أنَّها فتحت أمام المُسلمين باب الانتصارات المُتتالية في هذه البلاد، ووضعت حدًا لِآمال هرقل في إنقاذها بعد أن قضى المُسلمون على آخر ما تبقّى لديه من جُيوشٍ وقُوَّاتٍ جمعها بِصُعوبةٍ بالغة.
فتح قنسرين وحلب وأنطاكية
ــــــــــــــــــــ عاد المُسلمون إلى حِمص بعد أن هزموا الروم في اليرموك، ووضع أبو عُبيدة نصب عينه الجهات الشماليَّة، فبعث خالد بن الوليد على مُقدِّمة جيشه إلى قنسرين. فلمَّا نزل بالحاضر زحف لهم الروم، وثار أهل الحاضر بِخالد بن الوليد، وعليهم ميناس وكان من أعظم الروم بعد هرقل، فالتقوا بالحاضر ووقعت بين الجمعان معركة كبيرة، فقُتل ميناس ومن معه ولم يبق منهم أحدُ. وكان أهلُ الحاضر عربٌ مسيحيين من تنّوخ، فأرسلوا إلى خالد أنَّهم عرب وإنهم لم يكن من رأيهم حربه. فقتل منهم وترك الباقين. فدعاهم أبو عبيدة بعد ذلك إلى الإسلام فأسلم بعضهم، وبقي البعض على النّصرانيَّة، فصالحهم على الجزية. وسار خالد حتى نزل على قنسرين، فقاتلهُ أهلُ المدينة ثم لجؤوا إلى حِصنهم، فتحصّنوا منه، فهدَّدهم بما معناه أنَّ المدينة ستسقط بيد المُسلمين لا محالة، فنظروا في أمرهم ورأوا ما لقي أهل حِمص فصالحوهم على صلح حِمص، على دينار وطعامٍ على كُلِّ جريبٍ أيسروا أو أعسروا. ودعا أبو عُبيدة أهل قنسرين إلى الإسلام فأسلم بعضهم وأقام على النصرانيَّة بعضهم الآخر. لمَّا فرغ أبو عُبيدة من قنسرين سار إلى حلب، فبلغه أن أهل قنسرين نقضوا وغدروا، فوجَّه إليهم السمط ابن الأسود الكِندي، فحاصر المدينة وأعاد فتحها وغنم فيها بعض المواشي من أبقارٍ وأغنامٍ، فقسَّم بعضهُ في جيشه وجعل بقيَّته في المغنم. ولمَّا ورد أبو عبيدة عليهم أسلم المزيدُ من أهالي المدينة، وصولح كثيرٌ منهم على الجزية، ثم أسلموا بعد ذلك بيسيرٍ، إلَّا البعضُ منهم الذي فضَّل البقاء على المسيحيَّة. وصل المُسلمون إلى حلب، فتحصّن منهم أهلُها، وجاء أبو عبيدة حتى نزل عليهم فطلبوا من المُسلمين الصُلح والأمان. فقبل منهم أبو عبيدة وصالحهم وكتب لهم أمانًا، ودخل المُسلمون حلب من باب أنطاكية، وحفّوا حولهم بالتّراس داخل الباب. سار أبو عُبيدة بعد ذلك، إلى أنطاكية، وكانت مركزًا لِجُيوشِ الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة ومقر هرقل ومأمنه، وكان قد لجأ إليها كثيرٌ من البيزنطيين. وفتح أثناء زحفه أعزاز بدون قتال، وحاولت قُوَّة عسكريَّة خرجت منها وقف تقدُّمه إلَّا أنها فشلت واضطرَّ أفرادُها للعودة والتحصُّن بالمدينة. ولمَّا وصل أبو عُبيدة إلى أنطاكية ضرب الحصار عليها، وجرت مُناوشات بين الطرفين اضطرَّ بعدها السُكَّان إلى طلب الصُلح وأقرّوا بالجزية، ووافق أبو عُبيدة على طلبهم، ودخل المُسلمون بعد ذلك إلى المدينة. ونظرًا لِأهميَّة موقعها كمركزٍ مُتقدِّمٍ مُلاصقٍ لِحُدود العدوّ، أمر عُمر أبا عُبيدة بِشحنها بالمُقاتلين. وكان هرقل قد خرج من أنطاكية قبل وُصول المُسلمين وعاد إلى القُسطنطينيَّة، وتروي المصادر الإسلاميَّة أنَّه ودَّع الشَّام مُدركًا أنَّ الروم خسروها للأبد، فقال: «عَلَيْكِ السَّلَامُ يَا سُورِيَا سَلَامًا لَا اجتِمَاعَ بَعْدَهُ، إلَّا أن أُسَلِّمَ عَلَيْكِ تَسْلِيْمَ المَفَارِق، وَلَا يَعُوْدَ إِلَيْكِ رُومِيٌّ أَبَدًا إلَّا خَائِفًا حَتَّى يُوْلَدُ المَوْلُوْدُ المَشْؤُومُ، وَيَا لَيْتَهُ لَم يُوْلَد، مَا أَحْلَى فِعْلُهُ، وأَمَرَّ عَاقِبَتُهُ عَلَى الرُّومِ!».
فُتوح أقصى شمالي الشَّام
ـــــــــــــــــــ كان من الضروري، لِتأمين الفُتوح الإسلاميَّة في الشَّام، من التعرُّض لِردَّات فعل البيزنطيين بالسيطرة على منطقة أقصى شمالي البِلاد المُلاصقة للحُدود مع الأناضول. لِذلك، نشر أبو عُبيدة فرقه العسكريَّة في جميع أنحاء المنطقة، ففُتحت المُدن الصغيرة والقُرى بِسُهولة نظرًا لانعدام المُقاومة الجديَّة، ومنها: معرَّة مصرين، وبوقا، والجومة، وسرمين، ومرتحوان، وتيزين، وخناصرة، وقورس، والساجور، ومنبج، ومرعش، ورعبان، ودلوك، وعراجين، وبالس، وقاصرين، واللاذقيَّة، وغيرها. وقد صالحت هذه المُدن والقُرى المُسلمين على عُهود الصُلح التقليديَّة.
فُتوح السَّاحل اللُبناني واستكمال فُتوح فلسطين
ــــــــــــــــــــ بدأ الاحتكاك العسكريّ بين المُسلمين والبيزنطيين في ساحل لُبنان خِلال حِصار بعلبك حيثُ كان للمُسلمين مركزان مُسلحان: الأوَّل في برزة عليه أبو الدرداء الأنصاري، والثاني في عين ميسنون عليه أبو عُثمان الصنعاني شراحيل بن مرثد فأغار أحد القادة البيزنطيين ويُدعى سسناق على المركز الثاني مُنطلقًا من بيروت، ويبدو أنَّهُ نجح في قتل جماعة من حاميته. شجَّعت هذه الغارة البيزنطيَّة المُسلمين للسيطرة على القطاع الأوسط من ساحل الشَّام، والذي يمتد من عِرقة شمالًا إلى صيدا جنوبًا وطرد البيزنطيين من ثُغوره ومنعهم من استعمالها قواعد انطلاق لِمُهاجمة الداخل الشَّامي. خرج يزيد بن أبي سُفيان من دمشق على رأس قُوَّةٍ عسكريَّة مُتوجهًا نحو السَّاحل، وصحبهُ أخوه مُعاوية. ولم تُحدد المصادر التاريخيَّة الطريق الذي سلكهُ إلى المُدن الساحليَّة، والرَّاجح أنَّهُ اجتاز الطريق المُعاصر الذي يمُرُّ بِمُنعطفات جبل لُبنان، وهذا يعني أنَّ هذا الطريق كان خاليًا من أي قُوَّة بيزنطيَّة بعد الضربة التي تلقاها البيزنطيّون في اليرموك، حتَّى أنَّ أرض الشَّام فُتحت على مصاريعها أمام المُسلمين الذين تعدّوا الداخل إلى إقليم السَّاحل دون مُقاومة ولم يُبيِّن البلاذري، الذي أرَّخ لِهذا الفتح أيُّ مدينةٍ فُتحت قبل الأُخرى، لكن من المُتفق عليه أنَّ مُدن ساحل لُبنان فُتحت في ذات الوقت تقريبًا، ويظهر أنَّها كانت صغيرة وغير مُحصَّنة بما يكفي، لِذا كان فتحها يسيرًا، وكانت مأهولة بالروم والعرب والسُريان، وقد جلا أغلب أهلها من الروم، وبقي فيها العرب والسُريان وصالحوا المُسلمين. من جهةٍ أُخرى، توجَّه عمرو بن العاص إلى قطاعه فلسطين، ورُبَّما كان ذلك عبر نهر الأُردُن، ففتح سبسطية الواقعة إلى الشمال الغربي من نابلس، ثُمَّ فتح هذه الأخيرة، وأعطى أهلها الأمان على أنفُسهم وأموالهم ومنازلهم على أداء الجزية والخِراج، ثُمَّ فتح اللُدَّ ونواحيها ويبنى وعمواس وبيت جبرين، ثُمَّ هبط جنوبًا ففتح رفح، وفي رواية أنَّهُ فتح عسقلان وكان قد فتح غزَّة في عهد أبي بكر، وحاصر قيسارية التي كانت من أشهر المُدن آنذاك
فتح بيت المقدس
ــــــــــــــــ شكَّلت بيت المقدس القاعدة البيزنطيَّة الهامَّة، ومركز تجمُّع البيزنطيين الذين فرُّوا من المواقع التي هُزمت فيها جُيوشهم، كما كانت ملجأ للذين خرجوا من المُدن التي فتحها المُسلمون ورفضوا البقاء فيها مثل دمشق. وكان الأرطبون وهو أحد القادة البيزنطيين، من بين الذين التجأوا إليها وقاد عمليَّة المُقاومة ضدَّ المُسلمين. وكان المُسلمون قد وضعوا المدينة نصب أعيُنهم مُنذ أن توغلوا في الشَّام نظرًا لِمكانتها الدينيَّة في الإسلام، فهي أولى القِبلتين وموطن الأنبياء والرُسل، ومسرى الرسول مُحمَّد، ومنها عرج إلى السماء. قاد عمرو بن العاص عمليَّة حِصار المدينة بوصفه قائد الجبهة الفلسطينيَّة في الوقت الذي كان فيه أبو عُبيدة وخالد بن الوليد يفتحان شمالي الشَّام، وقد واجه مُقاومة ضارية من جانب حاميتها وسُكَّانها، ووجد مشقَّة بالغة في امتصاص الهجمات البيزنطيَّة، فأرسل إلى الأرطبون يطلب منهُ التسليم مثل بقيَّة المُدن ووعدهُ بالأمان. واستعمل البيزنطيّون المجانيق من فوق الأسوار لِضرب المواقع الإسلاميَّة، فسبَّبت أضرارًا بالأرواح والمعدَّات. وعانى المُسلمون من مصاعب طبيعيَّة قاسية، إذ اشتدَّ البرد وانهمرت الأمطار الغزيرة وتساقطت الثُلوج الكثيفة، فاستغلَّ الأرطبون سوء الأحوال الطبيعيَّة التي لم يتعوَّد عليها المُسلمون ورفض الدُخول في الصُلح، وأطال أمد الحرب، وشدَّد ضرباته ضدَّهم وهو يأمل أن يُلحق بهم الهزيمة أو يضطرَّهم إلى فك الحِصار عن بيت المقدس. اضطرَّ عمرو بن العاص، في هذه الظُروف القتاليَّة الصعبة، أن يكتب إلى عُمر في المدينة المُنوَّرة يطلب منهُ المُساعدة، فاستجاب لِطلبه وأرسل إلى أبي عُبيدة لِيُنجده، وكان قد فرغ لِتوّه من فتح شمالي الشَّام، فغادر المنطقة ونزل في الجابية، وقد صحبه خالد بن الوليد. وأرسل إلى يزيد بأن يبعث أخاه مُعاوية لِفتح قيسارية كي يشغل البيزنطيين على أكثر من جبهة، كما خرج عُمر بنفسه إلى الشَّام لِيكون قريبًا من مجرى الأحداث نظرًا لِأهميَّة وضرورة فتح بيت المقدس.
تسلَّم أبو عُبيدة فور وُصوله قيادة القُوَّات الإسلاميَّة، فارتفعت معنويَّات الجُند، وتسرَّب في المُقابل الخوف والقلق إلى قُلوب المُدافعين وبخاصَّةً بعد أن فشلوا في إلحاق هزيمة مؤكدة بِقوَّات عمرو، كما أنَّ سُقوط المُدن المُحيطة ببيت المقدس كان لهُ أثره السلبي على معنوياتهم لِأنَّهم حُرموا من الإمدادات، ولم تأتهم نجدة من هرقل، وعلموا أنَّ عُمر آتٍ فأدركوا أنَّ مدينتهم لن تستطيع الاستمرار بالمُقاومة وأنَّ سُقوطها أضحى مسألة وقت، فانسحب الأرطبون مُستخفيًا في قُوَّة من الجُند إلى مصر. وتسلَّم بطريرك المدينة العجوز صفرونيوس مقاليد الأُمور، فعرض عليه أبو عُبيدة الإسلام أو الجزية أو الحرب. كان اعتناق الإسلام بالنسبة إلى سُكَّان بيت المقدس آنذاك أمرًا صعبًا بل مُستحيلًا، كما أنَّ التجربة التي مرَّت بها المدينة قبل نحو خمسةٍ وعشرين سنة حين دمَّرها الفُرس جعلت الأهالي يحرصون على الجُنح إلى السلم إن سنحت الفُرصة. لِذلك اختار البطريرك استسلام المدينة على أن يُسلِّمها لِعُمر شخصيًّا ولا أحد سواه. وأتى عُمر إلى بيت المقدس وأعطى أهلها الأمان على أنفسهم وأموالهم وبيوتهم وكنائسهم وأديرتهم وجميع دور عبادتهم، كما أعطاهم حُريَّة البقاء في المدينة أو الخُروج مع الروم إلى حيثُ يشاؤون. ودخل عُمر وأصحابه إلى بيت المقدس بعد عقد الصُلح، ورافقهم البطريرك صفرونيوس يدُلُّهم على آثارها وأماكن الحج فيها، كما دلَّهم كعب الأحبار، وهو يهوديٌّ أسلم، على موقع الصخرة المُقدَّسة التي عرج منها الرسول مُحمَّد إلى السماء وفق المُعتقد الإسلامي، وكانت في منطقة الهيكل. وأعطى عُمر النصارى عهدًا بألَّا يُصلي المُسلمون على عتبات الكنائس جماعة، ولكن فُرادى وألَّا يدعوهم لِصلاة الجماعة مؤذِّن كي لا يُنفر أهل المدينة من الدين الجديد، كما امتنع عن الصلاة في كنيسة القيامة كي لا يتخذها المُسلمون بعده مسجدًا، وصلّى مُنفردًا خارجها، وابتنى المُسلمون لاحقًا مسجدًا في الموضع الذي صلّى فيه عُمر.
فتح قيسارية واستكمال فتح الأُردُن
ـــــــــــــــــــــــ سار يزيد بن أبي سُفيان بصُحبة أخاه مُعاوية إلى قيسارية بناءً على أمر عُمر، فضربا الحصار عليها، وأثناء ذلك أُصيب يزيد بالطاعون، فاستخلف عليها مُعاوية وعاد هو إلى دمشق. وشدَّد مُعاوية الحصار على المدينة، وجرت مُناوشاتٌ بين الجيش الإسلامي وحاميتها لم تُسفر عن أي تغييرٍ في الوضع الميدانيّ. ويبدو أنَّ البيزنطيين أرادوا الاحتفاظ بهذه المدينة موطئ قدمٍ لهم على ساحل الشَّام الجنوبي، لذلك استماتوا في الدفاع عنها، ولم يتمكَّن مُعاوية من فتحها إلَّا بِمُساعدة اليهود. ففي إحدى ثوراتهم على الحُكم البيزنطيّ، ثار اليهود في قيسارية فأرسل هرقل أخاه فأخضع الثورة وقتل مُعظم من فيها من اليهود وفرَّ من نجا. كان لِهذه الحادثة أثرها الإيجابي على عمليَّة الفتح، فبفعل العداء التقليدي بين اليهود والروم، جاء رجلٌ يهوديٌّ يُدعى يُوسُف إلى مُعسكر مُعاوية ودلَّهُ على نفقٍ يصلُ إلى بوَّابة القلعة داخل المدينة، فتسلَّلت مجموعة من المُقاتلين عبر ذلك النفق وفتحوا البوَّابة فدخل منها الجيش الإسلامي. فوجئ البيزنطيّون عندما رأوا الجُنود المُسلمين داخل المدينة، وتولَّأهم الذُعر، ولمَّا أرادوا الفرار عبر النفق وجدوا جُنود المُسلمين عليه، فقُتل مُعظمهم. وكان فتحُها في شهر شوَّال سنة 19هـ المُوافق فيه تشرين الأوَّل (أكتوبر) سنة 640م. وخِلال تلك الفترة استكمل شُرحبيل بن حسنة فتح إقليم الأُردُن، وكان قد دخل أكثرهُ في طاعة المُسلمين إثر معركة فحل - بيسان، ففتح سوسيا وأنيق وجرش وبيت رأس والجولان وغلب على سواده وجميع أرضه.
طاعون عمواس وفتح الجزيرة الفُراتيَّة
ــــــــــــــــــــــ في أوائل سنة 18هـ (وقيل أواخر سنة 17هـ) المُوافقة لِسنة 639م، ظهر الطاعون في بلدة عمواس قُرب بيت المقدس، وأخذ ينتشر في جميع أنحاء الشَّام. وكان عُمر بن الخطَّاب يهمُّ بدُخول البلاد وقتها، فنصحهُ عبدُ الرحمٰن بن عوف بالحديث النبويّ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلا تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا مِنْهَا». فعاد عُمر وصحبه إلى المدينة المُنوَّرة. وحاول عُمر إخراج أبا عُبيدة بن الجرَّاح من الشَّام حتّى لا يُصاب بالطاعون فطلبهُ إليه، لكنَّ أبا عُبيدة أدرك مراده واعتذر عن الحُضور حتَّى يبقى مع جُنده، فبكاهُ عُمر. ويبدو أنَّ الطاعون انتشر بصورةٍ مُريعة، عقب المعارك التي حدثت في الشَّام، فرُغم أنَّ المُسلمين كانوا يدفنون قتلاهم، فإنَّ عشرات آلاف القتلى من البيزنطيين بقيت جُثثهم في ميادين القتال من غير أن تُدفن، حيثُ لم تجد جُيوشهم المُنهزمة دائمًا الوقت الكافي لِدفن القتلى. واستمرَّ هذا الطاعون شهرًا ممَّا أدّى إلى وفاة خمسة وعشرين ألفًا من المُسلمين وقيل ثلاثين ألفًا، بينهم جماعة من كِبار الصحابة أبرزُهم: أبو عُبيدة بن الجرَّاح وقد دُفن في قرية بغور بيسان تُدعى «عمتا»، ومعاذ بن جبل الأنصاري ومعه ابنه عبدُ الرحمٰن، ويزيد بن أبي سُفيان، وشُرحبيل بن حسنة، والفضل بن العبَّاس بن عبد المُطلب، وأبو جندل بن سُهيل. وبعد انحسار الطاعون خرج عُمر من المدينة المُنوَّرة مُتجهًا نحو الشَّام عن طريق أيلة. فلمَّا وصلها قسَّم الأرزاق وسمّى الشواتي وسدَّ فُروج الشَّام وثُغورها، واستعمل عبد الله بن قيس الحارثي على السواحل ومُعاوية بن أبي سُفيان على جُند دمشق وخِراجها. ثُمَّ قسَّم مواريث الذين ماتوا بعد أن حار أُمراء الجُند فيما لديهم من المواريث بسبب كثرة الموتى وأخذ يدرس الأوضاع لِفتح الجزيرة الفُراتيَّة.
شكَّل إقليم الجزيرة الفُراتيَّة نُتوءًا وقاعدةً عسكريَّةً روميَّة مُهمَّة نتيجة شحنه بِحامياتٍ عسكريَّةٍ ضخمة تحسُبًا لِأي هُجومٍ قد يأتي من فارس. وبعد أن فتح المُسلمون أغلب العراق والشَّام، شكَّل هذا الإقليمُ خطرًا على البُلدان حديثة الدُخول في دولة الإسلام إذ كان بإمكان الروم استخدامه كمنصَّة لِإطلاق الوحدات العسكريَّة لِقتال المُسلمين واسترداد الأراضي المفتوحة منهم، كما أنَّ مُجاورته لِفارس كان يُفيد بإمكانيَّة حُصول تحالف بين الروم والفُرس ضدَّ المُسلمين. وكان فتحُ الجزيرة الفُراتيَّة من شأنه تثبيت الفُتوح الإسلاميَّة في العراق والشَّام وحِماية المُكتسبات الإسلاميَّة وقطع الصلة بين القبائل العربيَّة المسيحيَّة وبيزنطية بهدف وقف تجنيد العرب في الجيش البيزنطي، ومنع هرقل من الوُصول إلى المدِّ الأرمنيّ. ولمَّا كان أبو عُبيدة قد توفي بِطاعون عمواس، أقدم عُمر على تولية عياض بن غنم على حِمص وقنسرين والجزيرة، فخرج على رأس الجيش في مُنتصف شعبان 18هـ المُوافق فيه 21 آب (أغسطس) 639م، وأغار على الرِّقَّة ثُمَّ حاصرها وفتحها صُلحًا. وواصل تقدُّمه إلى الرها، وعسكر على أحد أبوابها، فقاومهُ أهلها. وبثَّ خيلهُ في الأماكن المُجاورة، ولم تمضِ ستَّة أيَّام حتَّى طلب قائد الحامية الصُلح، فأجابهُ عيَّاض وأمَّنهُ وأهل المدينة على أنفُسهم وأموالهم، وأقرّوا بالجزية والخِراج. ثُمَّ تقدَّم إلى حرَّان فصالحهُ أهلها على صُلح الرها، وأرسل فرقةً عسكريَّةً فتحت سميساط، ولم يلبث أهلُ المُدن الأُخرى مثل تل موزان وقرقيساء وآمد وماردين أن طلبوا الصُلح بِشُروط صُلح الرها، فأجابهم عيَّاض. ثُمَّ واصل فُتوحهُ في سنة 19هـ المُوافقة لِسنة 640م ففتح ميافارقين وكفرتوثا ونصيبين وأرزن. وأرسل عُمر بن سعد الأنصاري ففتح رأس العين ودارا ودخل درب الروم، وأطلَّ على أرمينية. وبهذا سقطت كامل الجزيرة الفُراتيَّة بيد المُسلمين، وقُطعت صلة الروم بفارس المُتداعية...... يتبع
المصادر
ــــــــــــــ
1- طقّوش، مُحمَّد سُهيل تاريخ الخُلفاء الرَّاشدين: الفُتوحات والإنجازات السياسيَّة
2- صحيح مُسلم » كتاب الفتن وأشراط الساعة » باب ما يكونُ من فتوحات المُسلمين قبل الدجَّال
3- المسعودي، مُرُوجُ الذهب ومعادنُ الجوهر
4- ابن الاثير - الكامل في التاريخ
5- .ابنُ سعيدٍ الأندلُسيّ نشوة الطرب في تاريخ جاهليَّة العرب
6- اليعقوبي - تاريخ اليعقوبي
7 - ابن هشام - السيرة النبوية
8- الطبري - تاريخ الرسل
9- الواقدي -المغازي
10- البلاذري - فتوح البلدان
11- الازدي - فتوح الشام
12- سويد ياسين - معارك خالد بن الوليد
13- اين عساكر - تاريخ دمشق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق