الأحد، 23 فبراير 2020

القضاء في عهد الخلفاء الراشدين//بقلم الكاتب الاديب الراقي/الشاعر المبدع/د.صالح العطوان الحيالي

القضاء في عهد الخلفاء الراشدين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي -العراق -2-2-2020
تعريف القضاء
لغة : مأخوذ من مادة “قضى” وهو أصل صحيح يدل على إحكام الأمر وإتقانه والفراغ منه . قال الله تعالي : (فقضاهن سبع سموات في يومين) فصلت 41/12 . أي : أحكم خلقهن . والقضاء : الحكم ، قال سبحانه : (فاقض ما أنت قاضٍ) طه 20/72 .
أي : اصنع واحكم ، ومنه سمي القاضي قاضياً ، لأنه يحكم الأحكام وينفذها .
ويرد القضاء بمعنى القطع والفصل والإعلام . والقضاء في الاصطلاح يدور معناه على فصل الخصومات ، وقطع المتنازعات بحكم شرعي على سبيل الإلزام
أركانه
ــــــــــ للقضاء أركان ستة تجمع أجزاء ما هيته وهي :
القاضي – المقضي به – المقضي عليه المقضي فيه – المقضي له – كيفية القضاء
فالقاضي : هو الحاكم المنصوب للحكم .
والمقضي به : هو الحكم الصادر عنه .
والمقضي عليه : هو المحكوم عليه المُلْزَم بحكم الحاكم .
والمقضي فيه : هو موضع التقاضي والمنازعة .
والمقضي له : هو المحكوم له على خصمه بالحق الواجب له عليه .
وكيفية القضاء : تعني طرق الحكم الموصولة إليه .
الحكمة من القضاء
ــــــــــــــــــــــــــ القضاء بين الناس في حكوماتهم ومنازعاتهم عمل جليل القدر والاعتبار ، يراد منه تحصيل مصالح ومنافع ، ودفع مفاسد ومضار للعموم تقوم الحاجة الملحة لاقتضاء ذلك .ولذا نبه فقهاء الشريعة – رحمهم الله – إلى المقصد الجليل والهدف النبيل من هذه الوظيفة العظيمة السامية ، وأنه مرتكز على إيصال الحقوق ودفع المظالم وقطع التنازع تحقيقاً لإقامة العدل والمعروف ، ومنابذة الظلم والمنكر .
القضاء في عهد الخلافة الراشدة يُعد أول تجربة قضائية للمسلمين بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولئن تميّز عهد النبوة بالوحي الذي هو مصدر التشريع ، وبوجود النبي صلى الله عليه وسلم قائماً بأمر الحكم بين الناس ومتولياً لهذا الشأن بتسليم ورضى وانقياد منهم تحقيقاً لما أمروا به في مثل قوله تعالى : (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوات إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) النور 24/51 فان عهد الخلفاء الراشدين هو المرحلة التطبيقية للقضاء تأسيساً على نصوص الشريعة ، وتأصيلاً للأحكام على ما فهم من سنن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الباب من بعده ، كما يظهر في هذه المرحلة الطريقة الصحيحة للنظر والاجتهاد في أعيان الحوادث المستجدة في واقع الناس ولم يكن لها نص يخص آحادها من المشرّع ، فيتحقق قيام المقتضي لاستخراج العلل وتحقيق المناطات واستجلاء الأقيسة السالمة من العوارض والنواقض ، ولقد كان في عهد الخلفاء النيّر تقعيد وتأصيل وتأسيس للأقضية والأحكام على ما جمعوه من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم وحفظوه عنه فيها ، ومما يُظهر اعتبار عهد الخلافة الراشدة وتميّزه حتماً بمزيد من العناية ما صح به الأثر عن النبي المصطفى – صلوات الله وسلامة عليه – الأمر بالعمل بسنة الخلفاء الراشدين من بعده . فعن العرباض بن سارية – رضي الله عنه – قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا ، قال : “أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإن تأمّر عليكم عبد ، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة” رواه أبو داود .
قال الحافظ ابن رجب – رحمه الله – : “وفي أمره صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين بعده وأمره بالسمع والطاعةلولاه الأمور عموماً دليل على أن سنة الخلفاء الراشدين متبعة كاتباع سنته ، بخلاف غيرهم من ولاة الأمور” .
ويمكن أن نستجمع أهم مميزات عهد الخلافة المبارك وسماته في المجال القضائي بما يلي :
أولاً: المرجع في الأقضية والأحكام في قضاء الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم – إلى وحي الرسالة بما ورد في كتاب الله تعالى وصح من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث يعد النص من المشرع هو الأساس المعتبر المنتهي إليه في كل حكومة يرام فصلها والقضاء فيها اهتداء بما ورد من نصوص الكتاب والسنة الموجبة لهذا الاعتبار .
ثانياً: الحرص على تقفّي سنن الرسول صلى الله عليه وسلم في أحكامه واقضيته ، واتباع سبيله فيها ، والعناية بجمعها . وتحقيق صحة وقائعها بالتتبع والسؤال والبحث وتلك أو وهي سمة ظاهرة في عمل الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم – في حكوماتهم واقضيتهم .
ثالثاً: الأحكام والأقضية تحتاج إلى إعمال نظر وتأمل ومقايسة ، ولذا فقد كان من منهج الخلفاء – رضي الله عنهم – في قضائهم المشاورة وطلب الرأي فيما يعرض لهم من القضاء ابتغاء للحق ، وتطلباً لحكم الله في الوقائع .
رابعاً: آحاد القضايا وأعيانها تتجدد وتتنوع وقد لا يكون ثمة نص في عين قضية ما فيعمد الخلفاء الراشدون – رضي الله عنهم – إلى إعمال أنظارهم باجتهاد وبحث ونظر ، استخراجا لحكم الواقعة وما يرتبط بها من المناطات والعلل المعتبرة في منظور الشريعة مما يتخرج عليه حكمها .
توسعت أقاليم الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم – حتى تجاوزت حدود جزيرة العرب نظراً للفتوحات الكثيرة ، وصاحب ذلك إقبال الناس على الدخول في دين الله أفواجاً ، فاقتضى الحال بعث جملة من القضاة يتولون الفصل والحكم في المنازعات والخصومات بين الناس في كل ناحية وإقليم ، وكان لهذا العمل مصالح كثيرة وإيجابيات متعددة في واقع القضاء حيث جرى ترتيب لهذه الإنابة القضائية من وليّ أمر المسلمين إلى من يقيمه لهذا الشأن بتقعيد أصول القضاء وبيان أساليبه ، وإيضاح سبله وطرائقة و من أشهر ما يذكر في هذا المقام كتاب عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إلى أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – في أمر القضاء حيث قال في كتابه : “أما بعد : فإن القضاء فريضة محكمة ، وسنة متبعة ، فافهم إذا أدلي إليك ، فإنه لا ينفع تكلّم بحق لا نفاذ له ، وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك ، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك ، البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر ، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً ، ومن ادعى حقاً غائباً أو بينة فاضرب له أمداً ينتهي إليه ، فإن جاء ببينة أعطيته حقه ، فإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية فإن ذلك أبلغ في العذر ، وأجلى للعمى ، ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق ، لأن الحق قديم لا يبطله شيء ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ، والمسلمون عدول بعضهم على بعض في الشهادة إلا مجلوداً في حدٍ أو مجرباً عليه شهادة زور ، أو ظنيناً في ولاء أو قرابة ، فإن الله تعالى تولى من العباد السرائر ، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان ، ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ليس في قرآن ولا سنة ، ثم قايس الأمور عند ذلك ، واعرف الأمثال والأشياء ، ثم اعتمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق ، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس عند الخصومة والتنكر ، فأن القضاء في مواطن الحق يوجب الله به الأجر ، ويحسن به الذخر ، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس ، ومن تزيّن بما ليس في نفسه شانه الله ، فان الله لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصاً ، وما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته
رزق القضاة:
ــــــــــــ وبالنظر إلى عمل القاضي يستخلص أنه موظف في الدولة يستحق أجرا على عمله. ثبت ذلك من سيرة الصحابة رضوان الله عليهم, فقد بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه لعامله على مصر قائلا : “أن أفسح للقاضي في البذل ما يزيل علته, وتقل معه حاجته إلى الناس,” ورتب للقاضي شريح 500 درهم في كل شهر
الشروط الواجب توفرها في القاضي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ يشترط الإسلام توفر جملة من المواصفات في شخصية القاضي ليتمكن من أداء واجبه على أكمل وجه وهي:
1- أن يكون مسلما : قال تعالى:{وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} النساء141 فالقاضي حين يقضي يطبق أحكام الشريعة الإسلامية , وتطبيق الشريعة والدين يحتاج إلى إيمان به من قبل من يطبقه, وخوف من الله يمنعه من الحيد عن التطبيق السليم لأحكامه, وهذا لا يتوفر إلا بصاحب العقيدة المسلم.
2- حرا : فلا تجوز تولية من فيه شائبة رق ومن يعجز عن ولاية نفسه.
3- بالغا : فتولي الصبيان غير جائز.
4- عاقلا: لا يتولى القضاء المجنون والمعتوه, فالقاضي ذكي واسع الإدراك, قوي الفطنة.
5- عدلا : فلا يجوز تولية الفاسق بل القائم بالفرائض , التقي , النقي , الورع.
6- فقيها : عالما بالمسائل الشرعية وأدلتها وطرق استنباطها, فلا تصح تولية الجاهل.
7- سليم الحواس : فلا تجوز تولية الأصم والأعمى ولا الأخرس , وذلك أن الخلل في هذه الحواس يعيقه عن العمل. أما سلامة باقي الاعضاء فهي مستحبة, لان السلامة من الآفات أهيب لذوي الولاية.
8- وتشترط الذكورة في قضاء المظالم دون غيره. تقليد القضاة وعزلهم : يجوز تقليد القضاة (القاضي, المحتسب, وقاضي المظالم) تقليدا عاما بجميع القضايا في البلاد , وكذلك تقليدا خاصا بقضية واحدة. ثبت ذلك من افعال الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قلد علي بن أبي طالب على قضاء اليمن وقلد عمرو بن العاص القضاء في قضية واحدة معينة
عزل القضاة يتم إذا:
ـــــــــــــــــــــــــ
1- وجد أفضل منه أو ظهر عجزه وعدم كفاءته , فقد عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه شرحبيل بن حسنة عن القضاء, فقال له شرحبيل : “أعن سخطة عزلتني” قال : “لا , ولكن وجدت من هو مثلك في الصلاح, واقوي منك في العمل.”
2- وكذلك فسق القاضي أي قيامه بالأعمال الفاسقة كشرب الخمر أو ارتكابه للكبائر .
3- وأيضا الردة, لان الإسلام شرط في صحة ولاية القاضي.
4- أو تعرضه للمرض المعجز الذي يعيقه عن العمل أو من جنون ألمّ به.
5- ويضاف إلى ما يسبق انتهاء المدة التي حددت له بالعمل أو بفراغه من النظر في قضية محددة كلف بها
في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
ــــــــــــــــــــــــــــ لم يكن منصب القاضي متميزًا في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بل كان يقوم به فقهاء الصحابة، وكان الخليفة يقضى بنفسه بين الناس في المدينة، وأحيانًا كان يقوم بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأمر الخليفة أبي بكر، وكان الولاة هم المسئولين عن القضاء في الأمصار.
في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه
ــــــــــــــــــــــــــــ ومنذ خلافة عمر بن الخطاب عين بعض الصحابة على القضاء في المدينة، منهم زيد بن ثابت وأبو الدرداء، كما عين عددًا من القضاة في الأمصار منهم عبد الله بن مسعود على قضاء الكوفة، وشريح بن الحارث الكندي على قضاء الكوفة، وعبيدة السلماني على قضاء الكوفة. وكان ألمعيًا في اختياره لهما فقد خدما الناس مدة طويلة في مجال القضاء خلال عصر الراشدين والأمويين. كما عين عمر عبادة بن عبادة بن الصامت على قضاء حمص وقنسرين. وبهذا الإجراء فصل عمر السلطة القضائية عن سلطة الولاة، وبذلك يتعزز موقع القاضي حيث أنه يرتبط بالخليفة مباشرة .ولكن استمر بعض الولاة يقومون بمهام القاضي في الولايات الداخلية المستقرة حيث يجد الولاة الوقت الكافي لذلك، خلافًا لولاة الأقاليم المحاذية للأعداء حيث ينشغل الوالي بالمهام العسكرية والإدارية. وكان عمر يوصي الولاة باختيار الصالحين للقضاء وبإعطائهم المرتبات التي تكفيهم .
في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
ــــــــــــــــــــــــ كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يعين القضاة على الأقاليم حينًا، مثل تعيينه كعب بن سور على قضاء البصرة، ويترك القضاء للوالي حينًا آخر، مثل طلبه من واليه على البصرة أن يقوم بالقضاء بين الناس إضافة إلى عمل الولاية، وذلك بعد عزله كعب بن سور. وكذلك كان يعلى بن أمية واليًا وقاضيًا على صنعاء . ويلاحظ أن بعض الولاة كانوا يختارون قضاة بلدانهم بأنفسهم، ويكونون مسئولين أمامهم مما يشير إلى ازدياد نفوذ الولاة في خلافته.
في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه
ــــــــــــــــــــــــــــ أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فكان يتولى القضاء بنفسه في الكوفة، أما الأمصار فكان تعيين القضاة غالبًا من قبل الولاة، ولكن عليًا رضي الله عنه عين بعض القضاة مباشرة .
وكانت مصادر الحكم في عصر الخلافة الراشدة هي القرآن والسنة والإجماع والاجتهاد والرأي. وقد عرف من فقهاء الصحابة وأهل الفتوى المكثرين والمتوسطين في عصر الخلافة الراشدة أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعائشة ومعاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك وأبو هريرة وسلمان الفارسي وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وزيد بن ثابت .
تطبيق الحدود الشرعية
وكان القاضي في عصر الخلفاء الراشدين “يقضي في الخصومات كلها، أيًا كان نوعها، في المعاوضات المالية، وفي شؤون الأسرة، وفي الحدود والقصاص، وسائر ما يكون فيه الشجار، وليس هناك ما يشير إلى ما يعرف اليوم بالاختصاص القضائي سوى ما جاء في تولية السائب بن يزيد ابن أخت النمر من قول عمر بن الخطاب: رد عني الناس في الدرهم والدرهمين”. ويجوز أن يعهد الخليفة إلى القاضي أن يقضي في قضية بعينها وينتهي اختصاصه بالنظر فيها.
وكان القضاة يقضون في الحقوق المدنية والأحوال الشخصية، أما القصاص والحدود فكان الحكم فيها للخلفاء وأمراء الأمصار، فلابد من موافقتهم على الحكم، ثم انحصرت الموافقة على تنفيذ حد القتل بالخليفة وحده، وبقي للولاة حق المصادقة على أحكام القصاص دون القتل.
ولم يكن للقضاء مكان مخصص، بل يقضي القاضي في البيت والمسجد، والشائع جلوسهم في المسجد. ولم تكن الأقضية تسجل لقلتها وسهولة حفظها. وكان بإمكان القاضي حبس المتهم للتأنيب واستيفاء الحقوق، وقد فعل ذلك عمر وعثمان وعلي، فكانت الدولة تهيئ السجون في مراكز المدن، وكان القصاص ينفذ خارج المساجد .
ندرة الخصومات بين الناس
كان الناس على مستوى عالٍ من الوعي الإسلامي، وكانوا يتعاملون بالمروءات فتقل بينهم الخصومات، مما خفف الأعباء عن القضاة. فلما ولي أبو بكر قال له أبو عبيدة: أنا أكفيك بيت المال. وقال عمر: أنا أكفيك القضاء، فمكث سنة لا يأتيه رجلان. وقال أبو وائل شقيق بن سلمة: “اختلفتُ إلى سلمان بن ربيعة حين قدم على قضاء الكوفة أربعين صباحًا لا أجد عنده فيها خصمًا”، وكان سلمان بن ربيعة أول من استقضى على الكوفة .
ولم تكن الدولة تشجع الناس على الاعتراف بخطاياهم، بل تريد لهم الستر والتوبة فيما بينهم وبين الله تعالى، فلما خطب شرحبيل بن السمط الكندي (ت 40 هـ)-وكان يتولى مسلحة دون المدائن- فقال: “أيها الناس، إنكم في أرضٍ الشرابُ فيها فاشٍ، والنساء فيها كثير، فمن أصاب منكم حدًا فليأتنا فلنُقم عليه الحد، فإنه طهوره، فبلغ ذلك عمر فكتب إليه: لا أحِلُّ لك أن تأمر الناس أن يهتكوا ستر الذي سترهم”. ولكن إذا رفع الناس الأمر إلى القضاء فإن الدولة كانت تقيم الحدود دون هوادة.
ومما يروى في الستر على حالات الجنوح، أن امرأة من همدان في اليمن ارتكبت الفاحشة فقدم عمها إلى المدينة، وذكر ذلك لعمر بن الخطاب، فقال له عمر: “لو أفشيت عليها لعاقبتك، إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه”. وقال عمر لرجل آخر في حالة مماثلة: “أنكحها نكاح العفيفة المسلمة” .
إخضاع الخلفاء أنفسهم لأحكام القضاء وإجراءاته
كان الخلفاء الراشدون يستوون مع الرعية في إجراءات التقاضي، بل إنهم عززوا مكانة القضاة وطالبوهم بأقصى درجات العدل في المساواة بين الناس حاكمهم ومحكومهم. وقد تخاصم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع الصحابي الجليل أبي بن كعب في ملكية بستان، فحكَّما زيد بن ثابت، فأتياه في منزله، فلما دخلا عليه قال له عمر: جئناك لتقضي بيننا، وفي بيته يؤتى الحكم. فتنحى له زيد عن صدر فراشه، فقال: هاهنا يا أمير المؤمنين. فقال عمر: جرت يا زيدُ في أول قضائك، ولكن أجلسني مع خصمي. فجلسا بين يديه. فادعى أبي وأنكر عمر. فقال زيد لأبي: أعف أمير المؤمنين من اليمين، وما كنت لأسألها لأحد غيره. فحلف عمر. ثم حلف عمر لا يُدرك زيد القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء”.
وساوم عمر بن الخطاب بفرس فركبه ليجربه فعطب، فقال لصاحبه: خذ فرسك. فأبى الرجل، فاحتكما إلى شريح، فقال شريح: يا أمير المؤمنين خذ ما ابتعت أو رُدَّ كما أخذت. فقال عمر: وهل القضاء إلا هكذا؟ فبعثه إلى الكوفة قاضيًا. وكان يتعاهده بالرسائل التي تحتوي على توجيهات بالقضاء وطرقه
نماذج مشرفة من القضاء الإسلامي:
ـــــــــــــــــــــــــــــ بدراسة تاريخ القضاء الإسلامي نجده قضاء مشرفا وذلك أن الفقهاء كانوا لا يلتمسون القضاء بقلوبهم ولا بألسنتهم, لشدة خوفهم من الوقوع في الخطأ والظلم, فأكثرهم رفض القضاء خوفا من أن ينطبق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “القضاة ثلاثة قاضي في الجنة وقاضيان في النار ، فأما الذي في الجنة فرجل علم الحق فقضى به وقاض علم الحق فلم يقضي به وقاض قضى بجهل فهما بالنار” (رواه أبو داود) ومن أمثلة ذلك: رفض الإمام أبو حنيفة تولي القضاء في الكوفة زمن الأمويين, رغم تعرضه للتعنيف والضرب. ونتيجة لذلك الالتزام وتلك الخشية الفائقة تولى القضاء قضاة نزيهون شرفاء, يسعد المرء بذكر بعض المواقف المشرفة لهم, ومنها:
1- اختصم علي بن أبي طالب يهوديا في درع كان في حوزة اليهودي إلى القاضي صاحب المظالم, فطلب القاضي من عليّ شاهدين, فأتى له بابنه الحسن ومولاه قنبر, وكان مذهب القاضي يرى أن الولد لا يشهد لوالده, وان الوالد لا يشهد لولده, فلم يأخذ القاضي بشهادة الحسن وشهادة قنبر, وحكم لصالح اليهودي , وكان ذلك سببا في دخول اليهودي الإسلام.
2- اختصم رجلان في شيء إلى إبراهيم بن اسحق القاري قاضي مصر سنة 204ھھ في خلافة المأمون , فقضى على احدهما , فشفع إلى الوالي, فأمره السرّي أن يتوقف عن تنفيذ الحكم , فجلس إبراهيم في منزله, فركب إليه السرّي و سأله الرجوع, فقال:”لا, لا أعود إلى ذلك المجلس أبدا ! ليس في الحكم شفاعة.”
3- جاءت امرأة متظلمة يوما للمأمون وأتته بثياب رثة , فاخذ حقها من خصمها وهو ابنه العباس, حيث جلس الخصمان في حضرة القاضي بن اكثم والمأمون, وأثناء النظر في الدعوى , ارتفع صوتها على صوت العباس , فزجرها احد الحجاب, فقال له المأمون : ” دعها فان الحق انطقها والباطل أخرسه”, وكانت ظلامتها ان العباس بن الخليفة اغتصب ضياعها, فأمر القاضي بردها إليها, وباشر المأمون تنفيذ الحكم على ابنه.
4- ومن المواقف التي تظهر نزاهة ونباهة وفطنة القضاة: تخاصم رجلا وامرأة لدى شريحا قاضي الكوفة, فأرسلت عيني المرأة وبكت, فقال احدهم: يا أبا أمية, ما أظن هذه البائسة إلا مظلومة , فقال: إن إخوة يوسف جاءوا أباهم يبكون.
5- ويروى عن نزاهة القضاة , أن قاضي مصر ابن عبد السلام , أفتى بشيء ثم ظهر له انه اخطأ, فنادى في المدينة عن نفسه : “من أفتى له ابن عبد السلام بكذا فلا يعمل به فانه اخطأ.”
المصادر
ـــــــــــــــ
1- القران الكريم
2- الذهبي: سير أعلام النبلاء
3- ابن العماد: شذرات الذهب
4- البلاذري: فتوح البلدان
5- صحيح مسلم و صحيح البخاري
6- العمري: الولاية على البلدان
7- خليفة بن خياط: التأريخ
8- عبد الله عثمان علي مقبل: قضاة أمير المؤمنين علي
9- ابن القيم: أعلام الموقعين
10- ابن عبد البر: الاستيعاب
11-ابن حجر: الإصابة
12- الشوكاني: نيل الأوطار
13- ابن حجر: فتح الباري
14- مناع القطان: النظام القضائي في العهد النبوي وعهد الخلافة الراشدة
15- الطبري: تأريخ الرسل والملوك
16- الطريفي: القضاء في خلافة عمر بن الخطاب
17- ابن الأثير: أسد الغابة
18- محمد حميد الله: الوثائق السياسية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق