الأحد، 19 يناير 2020

الفتح الإسلامي لبلاد الشام/بقلم الكاتب الاديب الراقي/الشاعر المبدع/د. صالح العطوان الحيالي

الفتح الإسلامي لبلاد الشام ....الجزء الثاني
ــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي -العراق- 7-1-2020
ظلت بلاد الشام محط أنظار المسلمين منذ أن بشر النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح بفتحها، فهي الأرض المباركة التي سيطر عليها الروم منذ أمدٍ بعيد، وسقوا أهلها المذلة والهوان لعقودٍ طويلة حتى جاء الفتح الإسلامي، الذي أخرجها من ربقة المحتل وقيده إلى فسحة الإسلام وعدالته.
أولى المواجهات العسكرية بين المسلمين والروم
بدأت المسلمون ومنذ عهدٍ قريب بالتفكير في فتح بلاد الشام، وقد كانت معركة مؤتة أولى تلك المحاولات التي أراد بها المسلمون اختبار قوة الروم، وبعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام وتولي أبي بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة، عقدت أول سرية بقيادة خالد بن سعيد بن العاص لمواجهة الروم في الشام.
الحملات العسكرية لفتح الشام
شكل الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه خمسة ألوية من أجل فتح بلاد الشام، حيث أسند قيادة الجيش الأول إلى يزيد بن أبي سفيان وأمره بالتوجه إلى دمشق والجابية، والجيش الثاني بقيادة شرحبيل بن حسنة وأمر بالتوجه إلى حوران، والجيش الثالث الذي كان تحت قيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح وتوجه إلى حمص، والجيش الرابع الذي كان تحت قيادة عمرو بن العاص وأمره بالتوجه إلى فلسطين، والجيش الخامس الذي شكل كجيش احتياط وكان تحت إمرة عكرمة بن أبي جهل.
فُتوحات الشَّام في عهد أبو بكر الصديق رضي الله عنه
ــــــــــــــــــ انطلقت الجُيوش الإسلاميَّة من قاعدتها في المدينة المُنوَّرة باتجاه أهدافها المُحددة، وقد شعرت القبائل العربيَّة المسيحيَّة المُتحالفة مع بيزنطية بهذا الزحف، فخشيت من اجتياحٍ إسلاميٍّ لِقُراها وأراضيها، كما خشي سُكَّانُ المُدن من توغُلٍ إسلاميٍّ في عُمق الشَّام ممَّا يُشكِّلُ تهديدًا لهم، فكتبوا إلى الإمبراطور البيزنطي هرقل يُعلمونه بالأوضاع المُستجدَّة ويطلبون منهُ مُساعدة عاجلة لِصد الزحف الإسلامي. كان هرقل آنذاك في فلسطين أو في دمشق، فدعا إلى عقد اجتماع مع مُستشاريه وأركان حربه للتشاور. وأدرك في الوقت نفسه مدى جديَّة المُسلمين في تقدُّمهم باتجاه الشَّام في هذه المرحلة التي تختلف في التخطيط والأداء عن الحملات السَّابقة، لذلك عرض على المُجتمعين تجنُّب القِتال وعقد صُلح معهم. إذ أنَّ إعطائهم نصف خِراج البِلاد والاحتفاظ بالنصف الآخر، أفضل من خِسارة خِراج البلاد بِكامله. غير أنَّ المُجتمعين عارضوا هذا الرأي، فنزل عندئذٍ على رأيهم، على الرُغم من أنَّهُ كان أكثرُهم تقديرًا لِخطر المُسلمين على مُلكه ودولته، كما كان أكثرُهم ذُعرًا وخوفًا، حتَّى أنَّهُ رحل عن فلسطين واستقرَّ بعيدًا في أنطاكية في أقصى شمالي الشَّام، لِيُوجِّه الجُيوش منها، ويبعث بِتعليماته إلى قادته، ويُدير العمليَّات العسكريَّة. كان للبيزنطيين في الشَّام جيشان كبيران، يتمركز الأوَّل في فلسطين ويبلُغ عديده سبعين ألف مُقاتل، ويتمركز الثاني في أنطاكية ويبلغ عديده مائتي ألف مُقاتل مُعظمهم من الأرمن والروم.
معركة مؤاب
ــــــــــــــ وصل يزيد بن أبي سُفيان إلى تبوك في أواخر سنة 12هـ، في الوقت الذي نزل فيه شُرحبيل بن حسنة في بُصرى وأبو عُبيدة في الجابية. وكان هرقل قد جهَّز قُوَّة عسكريَّة قِوامُها ثلاثة آلاف مُقاتل بِقيادة سرجيوس قائد منطقة غزَّة، وأرسلها إلى وادي عربة في فلسطين لِحصار المُسلمين المُتقدمين باتجاه الشمال، من الخلف، وقطع خُطوط إمداداتهم مع المدينة. كان من المفروض أن يتصدّى خالد بن سعيد لِهذه القُوَّة، وقد أمرهُ أبو بكر بأن يتقدَّم من تيماء دون أن يقتحم حتَّى لا يُؤتى من خلفه، غير أنَّ خالدًا توغَّل أكثر ممَّا سُمح لهُ حتَّى أنَّهُ سبق جيش أبي عُبيدة المُرابط في الجابية، فبلغ مرج الصَّفر في ضواحي دمشق. علِم يزيد بِتقدُّم جيش سرجيوس، وهو في البلقاء، في مكانٍ يقع شرقيّ البحر الميِّت، ثُمَّ شاهد طلائعُه، فاصطدم به في مؤاب وتغلَّب عليه، وانسحب البيزنطيّون مُنهزمين إلى داثن، إحدى قُرى غزَّة حيثُ أعاد سرجيوس تنظيم صُفوف قُوَّاته لِيستأنف القِتال. كانت مؤاب أوَّل مدينة بيزنطيَّة في الشَّام تسقط في أيدي المُسلمين، وقد أمَّن لهم فتحها السيطرة العسكريَّة على المنطقة الواقعة جنوبي وادي المُوجب أو نهر أرنون، وسمح لهم القيام بِنشاطاتٍ عسكريَّةٍ في وادي عربة ثُمَّ في داثن، بعد أن أضحى جناحهم الشمالي محميًّا، وأزاح كُل الحواجز العسكريَّة الجديَّة من طريقهم حيثُ أضحى الانتشار في رُبوع فلسطين يتمُّ وفق إرادتهم.
معركة داثن
ــــــــــ تحصَّن سرجيوس في داثن وخاض المعركة الثانية ضدَّ المُسلمين فخسرها، وخسر حياته حيثُ قُتل في المُبارزة التي جرت بينه وبين ربيعة بن عامر، وذلك في 24 ذي الحجَّة 12هـ المُوافق فيه 1 آذار (مارس) 634م. عزَّزت معركة داثن النجاح الذي حقَّقهُ المُسلمون أصلًا إلى مدى أبعد شرقًا وفي منطقة مُختلفة. وخلَّفت الخِسارة البيزنطيَّة صدىً قويًّا تراوح بين الفرح الذي عمَّ السُكَّان اليهود بِخاصَّة الذين عدّوا انتصار المُسلمين فاتحة زوال السيطرة البيزنطيَّة، وبين الأسى الذي عمَّ الدوائر الحاكمة في القُسطنطينيَّة وبعض القبائل العربيَّة الشَّاميَّة. وتُمثِّلُ هذه المعركة إلى جانب الهدف الديني الأسمى للمُسلمين، المُقاومة الإسلاميَّة للمُحاولات البيزنطيَّة لِتضييق الخِناق الاقتصادي عليهم من واقع فرض السيطرة على المناطق الحُدوديَّة والتَّحكُّم بِمُرور القوافل التجاريَّة، بعد أن استعاد هؤلاء سيطرتهم على سواحل البحر الأحمر. وتابع يزيد زحفهُ بعد انتصاره، فاجتاز حوران وغوطة دمشق حتَّى وصل إلى أبواب مدينة دمشق، وتمركز حولها، ومنع حاميتها من الاتصال بالقيادة المركزيَّة في أنطاكية، ثُمَّ اتصل ببقيَّة الجُيوش الإسلاميَّة.
معركة مرج الصفَّر
ــــــــــــــــ رأى هرقل أن يضرب أولًا جيش خالد بن سعيد الزَّاحف باتجاه مرج الصَّفر، فاستنفر العرب المُتنصرة مثل بهراء وسُليح وتنّوخ ولخم وجُذام وغسَّان، فتوافدوا وعسكروا في مكانٍ قريبٍ من آبل وزيراء والقسطل بِقيادة ماهان الأرمني، فاصطدم بهم خالد بن سعيد بعد أن استأذن أبا بكر وانتصر عليهم. وفرَّ ماهان مع من تبقّى من جُنوده من ساحة المعركة. كتب خالد بن سعيد بأنباء الانتصار إلى أبي بكر، وطلب منهُ إرسال المزيد من الإمدادات، فاستجاب لِطلبه، ثُمَّ تسرَّع خالد، فشقَّ طريقهُ إلى مرج الصَّفر مُتجاوزًا القواعد العسكريَّة الضروريَّة للزحف، وبخاصَّةً إرسال الطلائع لاستكشاف المنطقة ورصد وُجود تحرُّكات العدوّ، ممَّا أعطى الفُرصة لِماهان الذي كان يُراقب تحرُّكاته لِمُهاجمته. وعندما وصل إلى مرج الصَّفر بين الواقوصة ودمشق، قُطع عليه خط الرَّجعة دون أن يشعر، ثُمَّ التفَّ حول الجيش الإسلامي وفاجأهُ. فلاذ خالد بن سعيد بالفِرار تاركًا جيشه تحت رحمة الروم، لكنَّ عِكرمة بن أبي جهل نجح في إعادة تنظيم صُفوفه وانسحب من ميدان المعركة، وعسكر على مقربةٍ من دمشق. وجرت المعركة في 4 مُحرَّم 13هـ المُوافق فيه 11 آذار (مارس) 634م. وبحسب بعض الروايات التي تخالفها روايات أخرى، فقد وصلت أنباء هذه الهزيمة إلى مسامع أبي بكر، فكتب إلى خالد بن سعيد، الذي وُصف بأنَّهُ قائد غير كُفوء، يُعنِّفه، ويتَّهِمهُ بالجُبن والفرار طلبًا للنجاة، وأمرهُ بأن يظل في مكانه.
وضع هرقل خطَّة عسكريَّة لِمُواجهة المُسلمين على أثر انتشارهم في أجزاءٍ من الشَّام، تقوم على عددٍ من الأُسس، وهي تتمحور حول ضرب الجُيوش الإسلاميَّة مُنفردة، وذلك عبر تراجع البيزنطيين وفق خطةٍ تكتيكيَّة والتَّخلّي للمُسلمين عن مناطق الحُدود الشماليَّة لِشبه الجزيرة العربيَّة، ثُمَّ تتجمَّع وحدات الجيش الأوَّل في فلسطين بعد تعزيزها، بِقيادة تذارق (ثُيودور) أخي هرقل لِمُواجهة جيش عمرو بن العاص، وعلى الجانب الآخر تتجمَّع وحدات الجيش الثاني في أنطاكية بِقيادة وردان أميرُ حِمص، ثُمَّ يزحف الجيش الثاني من أنطاكية إلى حِمص ويُباشر القِتال مع كُل جيشٍ من الجُيوش الإسلاميَّة الثلاثة بشكلٍ مُنفرد بحيثُ يستدرج كُل جيشٍ منها إلى القِتال على حدة، فيهزمهُ ثُمَّ يميلُ إلى الآخر، وهكذا إلى أن ينتهي منها جميعًا، مُستخدمًا أُسلوب «المُناورة بالخُطوط الدَّاخليَّة». وبناءً على ذلك، تراجع البيزنطيّون بسُرعة من أمام المُسلمين مُتخلين عن الأراضي المُتاخمة لِشبه الجزيرة العربيَّة، ثُمَّ استجمعوا قِواهم في أنطاكية وفلسطين استعدادًا للتصدي للمُسلمين. وهكذا نشأت أمام المُسلمين حالة جديدة لم يكونوا يتوقعونها.
مسيرة جيش خالد بن الوليد من العراق إلى الشَّام.
ازداد الموقف العسكريّ وُضوحًا بعد استعدادات البيزنطيين وحشدهم الجُند. ووقف القادة المُسلمون في الشَّام على هذه التعبئة البيزنطيَّة، فتشاوروا فيما بينهم واستقرَّ الرأي على اقتراحٍ قدَّمهُ عمرو بن العاص ويقضي باجتماع الجُيوش الإسلاميَّة في مكانٍ واحد، وقضت الخِطَّة بالجلاء بِأقصى سُرعةٍ مُمكنة عن المناطق التي فتحوها في الدَّاخل، إذ المُهمُّ في الحرب ليس السيطرة على العواصم والبُلدان، بل القضاء على جُيوشِ العدو وسحق مُقاومتها. والتراجع حتَّى جِوار بُصرى، مع تجنُّب الاشتباك بالعدوّ والدُخول معهُ في معركةٍ غير مُتكافئة، على أن يتم تنظيم المرحلة التالية من العمليَّات فيما بعد. تنفيذًا لِهذه الخِطَّة سار أبو عُبيدة باتجاه بُصرى، وجلا يزيد عن الغوطة ورفع الحِصار عن دمشق، ثُمَّ جلا شُرحبيل رافعًا الحِصار عن بُصرى، واجتمعت الجُيوش الثلاثة في جوار بُصرى في حين أخذ عمرو بن العاص ينسحب تدريجيًّا بِمُحاذاة الضفَّة الغربيَّة لِنهر الأُردن لِيتصل بِزُملائه بعد تنفيذ إجراءات التراجُع والتَّجمُّع في جوار بُصرى، كتب أبو عُبيدة رسالةً إلى أبي بكر يُعلمهُ بِقرار القادة ويطلب مُوافقته عليه. وفعلًا وافق أبو بكر على هذا القرار وأدرك في الوقت نفسه حرج موقف المُسلمين على الجبهة الشَّاميَّة، وأنَّهم بحاجة إلى قيادةٍ عسكريَّةٍ فذَّة تُخرجهم من هذا الوضع الحرج، وجدها في خالد بن الوليد الذي انتشرت أخبار انتصاراته على الفُرس في العراق، فاستشار أصحابه فوافقوه
كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد بالعراق يأمُرهُ بالمسير إلى الشَّام في نصف الجيش، وكان خالد آنذاك في الحيرة وقد أنشأ لِنفسه موقعًا ثابتًا مُوطد الأركان نسبيًّا، في غربي الفُرات. لكنَّهُ لم يكن ينطوي مُنذُ البداية على الرغبة في فتح إقليم لِنفسه والاستقرار فيه، فرَّحب بالدعوة فورًا من واقع كونها تحديًا لِكفاءته العسكريَّة؛ فأطاع أمر الخليفة على وجه السُرعة. اصطحب خالد معهُ إلى الشَّام تسعة آلاف مُقاتل، وهم الذين قدموا معه يوم جاء إلى العراق، وترك ثمانية آلاف بِقيادة المُثنّى بن حارثة الشيبانيّ وهم الذين كانوا معهُ في العراق. خرج خالد بن الوليد من الحيرة في 8 صفر 13هـ المُوافق فيه 14 نيسان (أبريل) 634م، وأرسل رسالةً عامَّةً إلى المُسلمين في الشَّام يُخبرهم بأمر الخليفة بِنجدتهم، ورسالة خاصَّة إلى أبي عُبيدة يُخبره بأمر الخليفة تعيينه قائدًا عامَّا لِجُيوش المُسلمين في هذه البِلاد. واخترق الصحراء التي تفصلُ العراق عن الشَّام في ثمانية أيَّام وقيل خمسة أيَّام، في طريقٍ وعرة لم يسلُكها أحدٌ قبله، وهي طريق عين التمر - قراقر - سُوى - أرك - تدمر - القريتين - الغوطة - بُصرى. ويتمَّيز هذا الطريق بأنَّهُ خالٍ من قلاع الفُرس والروم ومسالِحهم، ويصل بِسالكه إلى بُصرى دون أن يتعرَّض لِهجمات العدوّ. واجتهد خالد حين أشرف على الشَّام وأراد أن يتوغَّل فيها؛ ألَّا يترك خلفهُ مواقع قائمة للبيزنطيين أو لِحُلفائهم من العرب، فصالح أهل مصيَّخ وبهراء وأرك بعد أن اصطدم بهم، وضرب الحصار حول تدمر.
فتح تدمر والقريتين وحوارين
ــــــــــــــ كانت تدمر من المراكز العسكريَّة المُحصَّنة، فحاصرها المُسلمون من كُلِّ جانب وقد تحصَّن بها أهلها، فهدَّدهم خالد وقد أصرَّ على فتحها. ويبدو أنَّهم أدركوا حرج موقفهم في ظل غياب الدعم البيزنطي فمالوا إلى طلب الصُلح وفتحوا أبواب مدينتهم للمُسلمين. واصل المُسلمون سيرهم حتَّى وصلوا إلى القريتين، فاعترضهم أهلها. وجرى اشتباكٌ بين الطرفين أسفر عن انتصار المُسلمين، ثُمَّ مرّوا بِحوارين، فتحصَّن أهلها وراء أسوارهم وطلبوا مُساعدة عاجلة من المُدن والقُرى المُجاورة، فجاءهم جيشان، الأوَّل من بعلبك والثاني من بُصرى، يبلغ عديدهُما أكثر من أربعة آلاف مُقاتل، لكنَّ المُسلمين اصطدموا بهما قبل أن يصلا وشتتوهما. واضطَّر أهالي حوارين إلى قُبول الصُلح. توجَّه المُسلمون بعد حوارين باتجاه الجنوب قاصدين غوطة دمشق، فاعترضهم الغساسنة بِقيادة الحارث بن الأيهم، وجرى اشتباكٌ بين الطرفين أسفر عن انتصار المُسلمين. وتراجع الغساسنة إلى حُصون دمشق، وواصل المُسلمون تقدُّمهم حتَّى بلغوا الثنية ووقفوا على التل المعروف بهذا الاسم ونشروا عليه الرَّاية السوداء المُسماة بالعُقاب وهي رايةُ النبيّ، وأغاروا على بعض قُرى الغوطة، وعسكروا أمام الباب الشرقي لِدمشق على دير صليبا. وفي رواية أنَّ خالدًا عسكر على باب الجابية الغربي، وأجرى مُباحثات مع أُسقف المدينة وعامل هرقل منصور بن سرجون أسفرت عن مُعاهدة صُلح. وكتب خالد كتابًا لِأهل المدينة يتعهَّد لهم بأنَّهُ لو دخلها لن يتعرَّض لهم أحد في أنفُسهم وأموالهم وكنائسهم وأن لا تُسكن دورهم طالما أعطوا الجزية. والواضح أنَّ دمشق لم تكن هدف خالد الآني، إنما أراد أن يحمي مؤخرة جيشه عندما يستأنف الزحف باتجاه الجنوب.
فتح بُصرى .
ــــــــــــ اجتاز المُسلمون الغوطة من الشمال إلى الجنوب حتَّى وصلوا إلى قناة بُصرى، وكانت لا تزال بِأيدي الروم وعليها أبو عُبيدة وشُرحبيل ويزيد فاجتمعت الجُيوشُ الإسلاميَّة الأربعة أمامها. في ظل هذه الظُروف، ومع تنامي خطر الاصطدام مع البيزنطيين، حاول خالد أن يأخذ زمام المُبادرة في الوقت الذي كان فيه عمرو بن العاص يتراجع بِمُحاذاة الضفَّة الغربيَّة لِنهر الأُردُن، يُرهقهُ جيشُ تذارق، ووجد نفسه أمام خيارين: الأوَّل، تجميعُ الجُيوش الإسلاميَّة الأربعة في بُصرى بعد الإيعاز إلى عمرو بن العاص بالإسراع نحوهم، والانضمام إليهم، ثُمَّ انتظار جيش أنطاكية البيزنطي الزَّاحف باتجاه الجنوب بِقيادة وردان حاكم حِمص، والاشتباك معه في ذلك المكان. الثاني، الإسراع لِنجدة عمرو بن العاص والاشتباك مع جيش تذارق، حتَّى إذا فرغوا منه عادوا لِيُقاتلوا جيش أنطاكية، بعد أن يكونوا قد ضمنوا مؤخرتهم ووطدوا أقدامهم في فلسطين. وتقرَّر الخيارُ الثاني، وهو الأخطر والأصعب، وترتب على هذا الاختيار فتحُ بُصرى أولًا للانطلاق منها نحو الهدف. لِذلك شدَّد المُسلمون الحِصار عليها وأجبروا أهلها على طلب الصُلح. فكانت أوَّل مدينة فُتحت صُلحًا في الشَّام، وأوَّل جزية وقعت في هذا البلد في عهد أبي بكر، وفقًا لِرواية البلاذري
معركة أجنادين
ـــــــــــ ارتدَّ عمرو بن العاص نحو أجنادين الواقعة بين الرملة وبيت جبرين، وتوقَّف فيها ينتظر وُصول جيش تذارق، ولمَّا وصل الأخير انضمَّ إليه نصارى العرب وغيرُهم من أهل الشَّام آملين أن ينالوا نهائيًّا من المُسلمين ويُخرجوهم من فلسطين. وكان مثل هذا العمل سيُؤدي إلى إحراج المُسلمين المُنتشرين في المناطق الواقعة شرقيّ البحر الميِّت ونهر الأُردُن، ووضعهم في موضعٍ مكشوفٍ على نحوٍ يُنذرُ بالخطر، إذ كانت القوى الإسلاميَّة بعيدة عنهم. عقد خالد بن الوليد مجلسًا عسكريًّا عندما علِم بِزحف البيزنطيين تقرَّر فيه تجميع القوى الإسلاميَّة والصُمود في أجنادين. وجرى اللقاء في هذه البلدة يوم السبت في 27 جمادى الأولى 13هـ المُوافق فيه 30 تمّوز (يوليو) 634م، دارت فيه الدائرة على القُوَّات البيزنطيَّة. كانت معركة أجنادين مكشوفة وأدَّت إلى جعل البيزنطيين أقل حماسةً عمَّا كانوا عليه من قبل لِمُجابهة المُسلمين في الأماكن المكشوفة. والواقع أنَّ الخوف كان يسبق القِتال المكشوف. واندلع القِتال بعد ذلك في أماكن هي أقرب إلى خُطوط المُواصلات البيزنطيَّة. وقد نال المُسلمون حُريَّةً نسبيَّةً مكَّنتهم من فتح مُعظم المُدن دون مُقاومة وشل حركة المُواصلات بين المُدن. واضطرَّت القيادة البيزنطيَّة إلى تغيير خِططها العسكريَّة، بالاعتماد على المُدن المُحصَّنة كقواعد حماية لِجُنودها، والانطلاق لِمُناوشة المُسلمين مع تجنُّب خوض معارك مكشوفة، ممَّا قلَّص حركيَّة القوى البيزنطيَّة وجعل المُبادرة بيد المُسلمين، إذ إنَّ توزيع القوى في مُدنٍ مُستقلَّة حال دون التعاون فيما بينها حيثُ شُغلت كُلُّ مدينة بالدفاع عن نفسها، وأضعف قُدرتها على مُجابهة خُصومها، وخلقت في نُفوس سُكَّانها عقليَّة دفاعيَّة، ومع ذلك فقد كانت هزيلة ممَّا يسَّر للمُسلمين فتحها. وكان هرقل قد جمع سُكَّان دمشق وأمرهم أن يُقفلوا الأبواب إقفالًا وثيقًا وأن يأتمروا بأمر القائد الذي سيُعينهُ عليهم وشجَّعهم على الاهتمام بالدفاع عن أنفُسهم ....... يتبع
المصادر
ــــــــــــــ
1- طقّوش، مُحمَّد سُهيل تاريخ الخُلفاء الرَّاشدين: الفُتوحات والإنجازات السياسيَّة
2- صحيح مُسلم » كتاب الفتن وأشراط الساعة » باب ما يكونُ من فتوحات المُسلمين قبل الدجَّال
3- المسعودي، مُرُوجُ الذهب ومعادنُ الجوهر
4- ابن الاثير - الكامل في التاريخ
5- .ابنُ سعيدٍ الأندلُسيّ نشوة الطرب في تاريخ جاهليَّة العرب
6- اليعقوبي - تاريخ اليعقوبي
7 - ابن هشام - السيرة النبوية
8- الطبري - تاريخ الرسل
9- الواقدي -المغازي
10- البلاذري - فتوح البلدان
11- الازدي - فتوح الشام
12- سويد ياسين - معارك خالد بن الوليد
13- ابن عساكر - تاريخ دمشق
14- ابن خياط - تاريخ خليفة بن خياط
15- ابن كثير - البداية والنهاية
16- كمال احمد عادل - الطريق الى المدائن
17- ابن سعد - الطبقات الكبرى
18 . الواقدي. فتوح الشام ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق