السبت، 18 يناير 2020

الفتح الاسلامي لبلاد الشام/بقلم الكاتب الاديب الراقي/الشاعر المبدع/ د. صالح العطوان الحيالي -العراق

الفتح الاسلامي لبلاد الشام ....... الجزء الاول
ـــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي -العراق- 7-1-2020
الفتح الإسلامي للشام هي سلسلة من المعارك العسكرية وقعت بين سنتي 12 هجري / 633م و 19 هجري / 640م بهدف سيطرة دولة الخلافة الراشدة على الشام أو ولاية سوريا الرومية .
كان قد اندلعت مناوشات بين الدولة الإسلامية التليدة في زمن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والإمبراطوية البيزنطية في غزوة مؤتة سنة 8 هجري / 629م وغزوة تبوك سنة 9 هجري / 630م وبعدها بدأت معارك فتوح الشام في خلافة أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد نهاية حروب الردة وقد تولى قيادة تلك المعارك كل من خالد بن الوليد وأبو عبيدة عامر بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان بشكل رئيسي حيث حدثت معركة مؤاب ومعركة داثن ومعركة مرج الصفر وقد أفضت هذه المعارك إلى انتصار المسلمين والتي نتج عنها فتح تدمر والقريتين وحوارين وفتح بصرى ثم حدثت معركة أجنادين قرب الرملة في فلسطين سنة 13 هجري / 634م والتي انتصر فيها المسلمون وخلال هذه الفترة توفي الخليفة الصديق وتولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة .
أن المعارك الحاسمة لفتح بلاد الشام كانت في عهد عمر بن الخطاب حيث حدثت معركة فحل-بيسان ومعركة مرج الروم التي نتج عنها فتح دمشق وفتح بعلبك وفتح حمص ثم حدثت معركة اليرموك سنة 15 هجري/ 636م التي هزم فيها الجيش البيزنطي هزيمة ساحقة حددت مصير بلاد الشام حيث فتحت قنسرين وحلب وأنطاكية وفتح الساحل اللبناني واستكمل فتح فلسطين وقيسارية واستكمال فتح الأردن وأن العديد من هذه المدن فتحت سلمآ دون قتال بعد أن أعطى المسلمون أهلها عهدآ بحفظ الأمن والأملاك الخاصة .
جرت معارك فتح الشام تزامنآ مع معارك فتح العراق وفارس وقد وجد الكثير من المؤرخين أن سقوط الشام سريعآ نوعآ ما يعود ألى عاملين أساسيين أولهما إنهاك الجيش البيزنطي بعد الحرب الطويلة مع الفرس وثانيهما سخط قطاع واسع من الشعب على السياسة البيزنطية وهو مادفع بعض القبائل والجهات المحلية لمساعدة المسلمين مساعدة مباشرة ولقد أقبل أغلب الشوام على اعتناق الإسلام بعد سنوات من الفتح واستقرت العديد من القبائل العربية المجاهدة في البلاد الجديدة واختطلت بأهلها ومع مرور الوقت استعربت الغالبية العظمى من أهالي الشام وأصبحت تشكل جزء مهم من الدولة الإسلامية وساتكلم عنها على شكل اجزاء
نُبوءة فتح الشَّام في المُعتقد الإسلامي
ــــــــــــــــــــــ يُؤمن المُسلمون بأنَّ الرسول مُحمَّد صلى الله عليه وسلم تنبأ وبشَّر بِفتح الشَّام قبل حُصول هذا الأمر بِسنواتٍ عديدةٍ، ووردت في ذلك عدَّة أحاديث، ومن ذلك حديثٌ رواه الإمام مُسلم بن الحجَّاج في صحيحه عن جابر بن سمُرة عن نافع بن عُتبة عن الرسول أنَّهُ قال: «تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ فَارِسَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ اللهُ» وفي روايةٍ أُخرى أنَّ النبي بشَّر بِفتح الشَّام وبُلدانٍ أخرى كثيرة خِلال مُعاونته المُسلمين حفر الخندق حول المدينة المُنوَّرة للحيلولة دون اقتحامها من قِبل مُشركي قُريش، سنة 5هـ، ففي حديثٍ منقولٍ عن ميمون بن أُستاذ أنَّهُ قال: «حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ: "لَمَّا كَانَ حَيْثُ أَمَرَ النَّبِيُّ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، عَرَضَتْ لَنَا صَخْرَةٌ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، فَقَالَ: "بِسْمِ اللَّهِ"، فَكَسَرَ ثُلُثَهَا، فَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَنْظُرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ""». وفي حديثٍ آخر رواهُ الإمام مُسلم عن ثوبان بن بجدد مولى الرسول: «إِنَّ النَّبِيَّ
قَالَ: "إنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ مُلْك أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا وَإِنِّي أُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ...»، ويتفق العُلماء والمُفسرون أنَّ المقصود بالأحمر هو كنز قيصر الروم الإمبراطور هرقل؛ لأنَّ الغالب عند الروم كان الذهب، وبالأبيض عن كنز كسرى الثاني شاه فارس؛ لأنَّ الغالب عندهم كان الفضة والجوهر، وقد ظهَر ذلك في زمان الفتوح في خِلافة عُمر، فإنه سِيق إليه تاج كسرى وحِليته، وما كان في بُيوت أمواله، وجميع ما حوَته مملكته على سَعتها وعَظمتها، وكذلك حصل بِهرقل لمَّا فُتِحت بلاده
دوافع الفتح والتمهيدات
في العصر النبويّ
ـــــــــــــــــ اتَّخذت الشَّامُ مُنذُ السنة السَّادسة للهِجرة حيِّزًا بارزًا في سياسة الرسول مُحمَّد صلى الله عليه وسلم الخارجيَّة، بعد أن حسم الوضع السياسي الدَّاخلي في الحجاز لِصالح المُسلمين إثر صُلح الحُديبية، وكان اهتمامهُ بِتلك البِلاد كهدفٍ حيويٍّ بوصفها أرضًا عربيَّة كالحجاز أو ذات وجودٍ عربيِّ ملحوظ، ولِإقامة مراكز إسلاميَّة على الأطراف الشَّاميَّة لِنشر الدعوة بين القبائل العربيَّة الوثنيَّة منها والمُتنصرة، واحتوائها تحت راية الدولة الإسلاميَّة في المدينة المُنوَّرة أو عقد صُلحٍ معها لِتمتين النُفوذ الإسلامي في تلك الرُبوع، ولِفك تحالُفها مع الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، ولِلسيطرة على طريق التجارة، إذ أنَّ مضاربها تُعدُّ بِمثابة معابر هامَّة لِلتجارة بين الشَّام وأنحاء شبه الجزيرة العربيَّة في الوقت الذي وصلت فيه تجارة القوافل إلى ذُروة النشاط والاستقرار. وأخذ الرسول يُراقبُ الوضع في تلك المناطق من خِلال السرايا المُبكرة التي كان يُرسلها، والرسائل المُوجهة إلى الإمبراطور البيزنطي هرقل والملك الغسَّاني شرحبيل بن عمرو صاحب بُصرى، وسائر رؤساء ومشايخ القبائل العربيَّة. دفعت التطوُّرات في الحجاز القبائل القاطنة في دومة الجُندل إلى القيام بِتحرُّكٍ سريع، وتزعَّم أكيدر بن عبد الملك الكِندي النصراني تحالُفًا قبليًّا راح يتهيَّأ للزحف نحو المدينة المُنوَّرة. ولمَّا علِم النبيُّ بِتلك الاستعدادات خرج من المدينة على وجه السُرعة في شهر ربيع الأوَّل سنة 5هـ المُوافق فيه شهر آب (أغسطس) سنة 626م، وتوجَّه نحو دومة الجُندل مُستبقًا قوى التحالف، ولمَّا وصل إليها لم يجد من يصطدم به. ويبدو أنَّ أكيدر تهيَّب الموقف فانسحب باتجاه الشِمال. واستغلَّ النبيُّ وجوده في تلك المنطقة، فقام بِعمليَّاتٍ استطلاعيَّة.
تُعدُّ هذه الغزوة الحلقة الأولى في سلسلة الصراع العسكريّ بين المُسلمين والقبائل الضَّاربة على تُخوم الشَّام بِخاصَّة، وبين المُسلمين والروم بِعامَّة، في صِراع السَّيطرة على الشَّام. يُؤكدُ هذا ما ذكرهُ الواقدي من أنَّهُ قيل للرسول وهو بِصدد مُهاجمة دومة الجُندل: «إِنَّهَا طَرَفٌ مِنْ أَفْوَاهِ الشَّامِ، فَلَوْ دَنَوْتَ مِنْهَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُفْزِعُ قَيْصَرَ». وتكثَّفت هجماتُ المُسلمين على المناطق الحُدوديَّة مع الشَّام في السنة السَّادسة للهِجرة، ومنها: سريَّة زيد بن حارثة التي انتهت إلى العِيص، وتلك التي انتهت إلى حُسمى وراء وادي القُرى، وتلك التي خرجت في شهر رجب سنة 6هـ المُوافق فيه شهر كانون الأوَّل (ديسمبر) سنة 627م باتجاه وادي القُرى، وقد أغفلت رواياتُ المصادر دوافعها ونتائجها، إنما يُمكنُ القول بأنَّها تتعلَّقُ بِسياسة النبيّ الشَّاميَّة. وخرجت سريَّة في شهر شعبان سنة 6هـ المُوافق فيه شهر كانون الثاني (يناير) سنة 628م بِقيادة عبدُ الرحمٰن بنُ عوف باتجاه دومة الجُندل لِقتال قبيلة كَلَب النصرانيَّة، وقد شغلت حيِّزًا هامًّا في سياسة النبيّ الشَّاميَّة. فقد طلب من قائدها أن يتزوَّج ابنة شيخ القبيلة إن استجاب هو وقومه إلى دعوة الإسلام، وذلك بهدف استقطابهم، وتعزيزًا للعلاقات بين الطرفين، إذ كانت هذه القبيلة أهم مجموعة عربيَّة في الشَّام حين ظهر الإسلام كقوَّةٍ سياسيَّةٍ. وقد نجح عبدُ الرحمٰن في مُهمَّته، واعتنق الإصبغ بن عمرو الكلبيّ الإسلام، وتبعهُ أكثر قومه وتزوَّج من ابنته. وتميَّزت السريَّة المعروفة «بِأُم قرفة» بِدوافعها الاقتصاديَّة الواضحة. فقد خرج زيد بن حارثة في شهر رمضان سنة 6هـ المُوافق فيه شهر كانون الثاني سنة 628هـ في تجارةٍ إلى الشَّام، فتعرَّض لاعتداءٍ من قِبل جماعةٍ من فزارة في مكانٍ قريبٍ من وادي القُرى، وعاد إلى المدينة المُنوَّرة، بيد أنَّهُ عاد مُجددًا إلى استئناف مُهمتهِ بعد إصرار النبيّ، ونزل في المكان نفسه، واصطدم مع الجماعة التي اعترضتهُ، فقتل وأسر منهم وعاد إلى المدينة. ويُعدُّ هذا الاختراق لِقبيلةٍ كبيرةٍ كفزارة ما تزالُ غير مُكترثةٍ حتَّى ذلك الحين، بالقُوَّة الإسلاميَّة النَّامية في المدينة؛ عملًا ناجحًا كان له وقعهُ الحسن بين المُسلمين.
استأنف الرسول نشاطهُ الجهاديّ في الشِّمال بعد صُلح الحُديبية، نظرًا لِما أمَّنهُ ذلك الصُلح من استقرارٍ في الوضع الداخلي، وبعد أن شهدت الجبهة القبليَّة - البيزنطيَّة بعض الارتباك؛ إذ تزعزعت ثقة القبائل العربيَّة ببيزنطية، بِفعل مُحاولتها تغيير المُعادلة في العلاقات الثُنائيَّة من واقع فرض سيطرتها المُباشرة عليها وتخفيف مُساعداتها الماليَّة لها، ممَّا أسهم في تراجع الروح المعنويَّة لدى القبائل التي نشأت على الاستقلال ورفض التدخُّل الخارجيّ في شؤونها إلَّا ما كان في إطار التحالُفات والمصالح الخاصَّة، كما أنَّ الاختلاف المذهبي أسهم في خلق وعي لديها تجاه الإسلام على الرُغم من أنَّها وجدت فيه تحديًا عقائديًّا يفوقُ، مبدئيًّا، التحدي البيزنطي. أرسل النبيّ في تلك الفترة كتابهُ إلى هرقل وكتابًا آخر إلى الحارث بن أبي شُمَّر الغسَّاني ملك تُخوم الشَّام. وتطرَّق في الكتاب الذي أرسلهُ إلى هرقل إلى أوضاع القبائل العربيَّة المُوالية لِبيزنطية، طالبًا منه ألَّا يحول بين الفلَّاحين وبين الإسلام إن قرروا الدُخول فيه أو أن يُعطوا الجزية، الأمر الذي أثار الإمبراطور البيزنطي ودفعهُ إلى استنفار قُوَّاته وحُلفائه من العرب. واعتُرض مبعوث النبيّ الحارث بن عُمير الأزدي إلى ملك الغساسنة من قِبل شرحبيل بن عمرو الغسَّاني، وقتلهُ عند طريق مؤتة؛ الأمر الذي فجَّر الوضع العسكريّ بعد أن بلغ التوتُّر ذروتهُ بين الطرفين، فأعدَّ الرسول حملةٍ من ثلاثة آلاف مُقاتل لِتأديب القبائل العربيَّة إن لم تستجب لِدعوة الإسلام، وإشعارها بِقوَّة المُسلمين، وقُدرتهم على ردع المُعتدين والغادرين. وأدرك النبيُّ مدى الخطر الذي يُهدِّدُ الحملة أمام القُوَّات البيزنطيَّة وحُلفائها، فسمّى ثلاثة قادة يخلف الواحد منهم الآخر في حال سُقوطه في أرض المعركة، وهُم: زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبدُ الله بن رواحة. حشد هرقل، الذي كان يتتبَّع أخبار تحرُّك المُسلمين من مقرِّه في أنطاكية، قُوَّةَ عسكريَّةً بيزنطيَّة بِقيادة أخيه تذارق (ثُيودور) زحفت باتجاه الجنوب وعسكرت في مؤاب من أرض البلقاء، وانضمَّت إليها في هذا المكان قُوَّاتٌ عربيَّة مُوالية من بهراء وبكر بن وائل ولخم وجُذام تُقدَّر بِمائة ألف مُقاتل. والواقع أنَّ الحملة الإسلاميَّة كانت أقرب إلى أن تكون حملة استطلاعيَّة منها إلى حملةٍ هدفها الدُخول في صدامٍ مُسلَّحٍ غير مُتكافئ، بدليل قلَّة الخسائر التي عانت منها عند الاشتباك مع الروم، إذ قُتل حوالي عشرة من المُسلمين بالإضافة إلى القادة الثلاثة، وقد ترك مقتل هؤلاء أثرًا عميقًا في المدينة وبنُفوس المُسلمين، لكنَّه شكَّل حافزًا جديدًا للاستمرار في مُناوشة الروم واستطلاع أحوال بِلادهم، ولم يرَ النبيُّ فيها إخفاقًا أو تراجُعًا لِمشروعه، فقال عن الجُنود المُنسحبين: «لَيْسُوا بِالْفُرَّارِ، وَلَكِنَّهُمُ الْكُرَّارُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ». أمَّا من الجانب البيزنطي، فقد كانت جُزءًا من عمليَّة استطلاع تنظيمي لِمناطق خلت من عمليَّاتٍ عسكريَّةٍ مُدَّة عقدين، كان البيزنطيّون خِلالها يُحاولون تثبيت سُلطتهم في مناطق تخلّى عنها الفُرس على امتداد التُخوم الجنوبيَّة للشَّام، مُعتمدين على مُساعدة القبائل العربيَّة المُتحالفة معهم.
إحدى مناطق التُخوم الشماليَّة لِشبه الجزيرة العربيَّة، وهي المناطق التي وقعت فيها الغزوات الإسلاميَّة على الشَّام خِلال العصر النبويّ.
إحدى مناطق التُخوم الشماليَّة لِشبه الجزيرة العربيَّة، وهي المناطق التي وقعت فيها الغزوات الإسلاميَّة على الشَّام خِلال العصر النبويّ.
أعاد النبيّ إرسال حملة أُخرى إلى الشَّام بِقيادة عمرو بن العاص بعد نحو شهر، عندما بلغهُ أنَّ حُشودًا من بلي وقُضاعة وعاملة وكَلَب وغسَّان ولخم وجُذام تجمَّعت بهدف غزو المدينة المُنوَّرة، وقد بلغ عديدُها ثلاثمائة مُقاتل. وبِفعل الحُشود القبليَّة الضخمة التي صادفها عمرو، طلب نجدة عاجلة من المدينة، فأمدَّهُ النبيّ بِمائتيّ مُقاتل بِقيادة أبي عُبيدة بن الجرَّاح. وبعد عدَّة اصطدامات مع جماعات قبليَّة عادت الحملة إلى المدينة المُنوَّرة. غطَّت هذه الحملة بِنتائجها الإيجابيَّة، المُتمثلة بِفرض الوجود الإسلامي بعد الانتشار الواسع للمُسلمين في هذه المناطق، وتهديد الشَّام وإن بشكلٍ غير مُباشر؛ النتائج السلبيَّة لِغزوة مؤتة، وأعادت الثقة بالنفس إلى نُفوس المُسلمين في المدينة. ووصلت إلى مسامع النبيّ، بعد عودته إلى المدينة في أواخر سنة 8هـ المُوافقة لِأوائل سنة 630م في أعقاب فتح مكَّة وانتصاره في حُنين؛ أنباء عن حُشودٍ روميَّة - عربيَّة مُشتركة بِهدف القيام بِهُجومٍ على المدينة والقضاء على الدولة الإسلاميَّة الناشئة، قبل أن يشتد ساعدها وتُشكِّلُ خطرًا جديًّا على الوُجود البيزنطي في الشَّام؛ فقرَّر التصدّي لها. فخرج من المدينة في شهر رجب سنة 9هـ المُوافق فيه شهر تشرين الأوَّل (أكتوبر) سنة 630م على رأس جيش يُقدَّرُ بِثلاثين ألف مُقاتل، ووصل إلى تبوك، لكن لم يقع قِتال بفعل انسحاب قِوى التحالف شمالًا قبل وُصول المُسلمين. وراح النبيُّ يتَّصلُ بِزُعماء القبائل المسيحيَّة المُنتشرة في المنطقة في مُحاولة لاستقطابهم وفك تحالُفهم مع بيزنطية. وفعلًا وفدت عليه وُفود القبائل المُجاورة وصالحتهُ على الجزية، فحقق بحركته الصعبة تلك، انتصارًا على الجبهة الشماليَّة، إذ ربط العديد من القبائل العربيَّة الشاميَّة بالدولة الإسلاميَّة، فمدَّ نُفوذها إلى عُمق المناطق التي كان سُكَّانُها يعملون لِصالح الروم ويُؤدون دورًا خطيرًا في مُقاومة امتداد الإسلام باتجاه الشِّمال، وفتح منافذ الطُرق إلى الشَّام وبعث رُوح المُقاومة والتحرير في نُفوس العرب المُقيمين بالديار البيزنطيَّة. وجهَّز النبيُّ، بعد عودته إلى المدينة المُنوَّرة من غزوة تبوك، حملة أُخرى بِقيادة أُسامة بن زيد لِإرسالها إلى التُخوم الشماليَّة. والواضح أنَّهُ لم يستهدف فتح الشَّام أو الدُخول في معركةٍ سافرةٍ مع الروم بِدليل أنَّها تألَّفت من ثلاثمائة مُقاتل فقط، وإنَّما هدف أن تكون أشبه بِمُناورةٍ عسكريَّةٍ، وإظهار قُوَّة المُسلمين أمام القبائل التي ما تزال تُساند البيزنطيين، لكنَّ النبي توفي قبل أن تنطلق الحملة.
بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، بُويع أبو بكر الصدِّيق بالخِلافة ليتولّى شؤون المُجتمع الإسلامي الجديد الذي كوَّنهُ الرسول خِلال حياته، وكان أوَّل عمل قام به أبو بكر بعد مُبايعته هو التصدّي لأهل الردَّة ومُدعي النبوَّة الذين انتشرت ظاهرتهم واشتعلت في مُختلف أنحاء شبه الجزيرة لِأهدافٍ مُختلفة، ولكن قبل أن يحوِّل نظره شطر الأنحاء التي أعلن أهلها ارتدادهم عن الإسلام، قرر أبو بكر تلبية رغبة النبيّ مُحمَّد قبل وفاته، وهي إرسال سريَّة أسامة بن زيد إلى مشارف الشَّام للإغارة على القبائل الشاميَّة على الطريق التجاري بين مكَّة وغزَّة، ولمُحاربة الروم. وقد أشار المُسلمون وفي مُقدمتهم عُمر بن الخطَّاب على أبي بكرٍ ألّا يُرسل حملة أسامة بن زيد حتى لا تضعف قوَّة المدينة المنوَّرة بحال هاجتمها قبائل الأعراب المُرتدَّة، ولحاجته إليها في قتالهم وغزوهم، لكن أبا بكر أبى أن يُخالف وصيَّة النبي، وكان جوابه إلى الصحابة صريحًا، فقال: «وَاللَّهِ لَا أَحُلُّ عُقْدَةً عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ
، وَلَوْ أَنَّ الطَّيْرَ تَخَطَفُنَا، وَالسِّبَاعَ مِنْ حَوْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَوْ أَنَّ الْكِلَابَ جَرَّتْ بِأَرْجُلِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، لَأُجَهِّزَنَّ جَيْشَ أُسَامَةَ».[55] وترتب على انتصار المُسلمين على أهل الرِّدَّة عدَّة نتائج مُهمَّة منها إعطاء المُسلمين الثقة بالنفس وبِالنظام الذي اختاروه وبِالقُدرة على الانتصار، وهي ثِقةٌ هامَّةٌ وضروريَّةٌ في مُواجهة قِوى كُبرى تتمتَّع بِقُدراتٍ ماديَّةٍ وكثرةٍ عدديَّةٍ، هذا إلى جانب الإيمان بالهدف. كما شكَّلت فُرصةً للمُسلمين كي يتدربون تدريبًا عسكريًّا عمليًّا على مُستوى الجُيوش الكبيرة، ابتداءً من الحشد والتعبئة العامَّة إلى التحرُّكات والسير والالتحام، إلى أعمال الدوريَّات والحِصار والجاسوسيَّة والتدابير اللوجستيَّة. ويُمكنُ وصف هذه الحُروب بِمثابة جسر عبر المُسلمون العرب عليه إلى خارج شبه الجزيرة العربيَّة بِهدف الفتح.
يكادُ يتفق الباحثون في تاريخ الفُتوح الإسلاميَّة على أنَّ الشَّام كانت في مُقدِّمة اهتمامات الخليفة أبي بكر الهادفة إلى التوسُّع عبر المناطق المألوفة للعرب جُغرافيًّا، وكانت هذه البِلاد أكثرُها التصاقًا بِذاكرة العربيّ التاجر، حيثُ سعى إليها في رحلة الصيف أو سمع الكثير عنها من رجال القوافل ورُواة الأخبار. وكانت رؤية الرسول التوسُّعيَّة في تلك المنطقة حاضرة في ذهن أبي بكر الحريص على انتهاج السياسة النبويَّة مُنذُ بداية عهده. وإذا كانت ملامح هذه السياسة قد ظهرت أولًا في العراق، فإنَّ الجبهة الشَّاميَّة قد استقطبت الجانب الأكبر من اهتمامات أبي بكر، وبخاصَّة بعد انتصار المُسلمين في العراق. وتمَّت خطَّة التحرُّك نحو الشَّام في السنة الثانية عشرة للهجرة، بعد مُشاوراتٍ أجراها أبو بكر مع كِبار الصحابة من أهل الحل والعقد، ثُمَّ قام بِتعبئة المُسلمين لِغزو هذه البِلاد. كان ردُّ فعل المُسلمين الفوري الصَّمت، وذلك بِفعل هيبة غزو الروم، حتَّى قام خالد بن سعيد بن العاص الأُموي، فتقبَّل الفكرة، فكان أوَّل من خرج إلى الشَّام بعد أن عقد لهُ أبو بكر لِواء، هو أوَّل لِواء عقدهُ لِحربِ الشَّام. تحمَّست بعض القبائل، في سياق هذه الحملة التعبويَّة، للمُشاركة في عمليَّة فُتوح الشَّام، وأرسلت مُقاتليها إلى المدينة المُنوَّرة، ومع ذلك ظلَّت الاستجابة بالمُشاركة ضعيفة، مما دفع أبا بكر إلى استنفار قبائل اليمن، فجاءهُ المُتطوعون من حِمير ومذحج، ويُشيرُ البلاذري أنَّ أبا بكر سارع فور انتهاء حُرُوب الرِّدَّة إلى تعبئة قبائل نجد والحجاز واليمن لِغزو الشَّام، وسعى لِتشجيعها بالغنائم العظيمة، فسارع النَّاسُ إليهِ بين مُحتسبٍ وطامعٍ، وهذا يعني أنَّ بعض القبائل كانت تدفعُهم غريزة الغزو والغنيمة، وفق تقاليد الغزو المعروفة في المُجتمع العربي، وأنَّ أبا بكر لجأ إلى هذه الوسيلة التشجيعيَّة بعد أن لمس ضعف الاستجابة العربيَّة لِمشروعه، مما يدُلُّ على أنَّ بعض العرب كان الإسلامُ لا يزالُ ضعيفًا في قُلوبهم، كما أنَّ منع أبي بكر المُرتدين من المُشاركة في حرب الفُتوح، وهُم أكثر العرب، قد أثَّر على ذلك. ومهما يكُن من أمر، فإنَّ حركة الفُتوح الإسلاميَّة للشَّام، نوقشت بين أهل الحل والعقد، ثُمَّ عُرضت على عامَّة المُسلمين، ووُضعت الخُطوط العريضة لها أثناء انعقاد اجتماع كِبار الصحابة.
بعد أن استُكمِلت التجهيزات وتمَّت الاستعدادات، عيَّن أبو بكر قادة الجُيوش التي قرَّر أن يُرسلها إلى الشَّام، وهي: الجيشُ الأوَّل بِقيادة خالد بن سعيد بن العاص الأُمويّ، وحدَّد لهُ دمشق كهدف، وتراوح عديده بين ثلاثة وأربعة آلاف مُقاتل. وقد أبدى عُمر بن الخطَّاب تحفُظًا على قيادة خالد، لِموقفٍ اتخذهُ من بيعة أبي بكر، فأعفاهُ الخليفة بعد أن اقتنع بِرأي عُمر، واستردَّ منهُ اللواء وعيَّن مكانهُ يزيد بن أبي سُفيان وهو أُمويٌّ أيضًا. وأردف أبو بكر ربيعة بن الأسود بن عامر مددًا لِيزيد، فأضحى عدد قُوَّاته سبعة آلاف مُقاتل، وحدَّد له طريق الزحف وهو: وادي القُرى - تبوك - الجابية - دمشق. وانطلق هذا الجيش في 23 رجب 12هـ المُوافق فيه 3 تشرين الأوَّل (أكتوبر) 633م سالكًا الطريق المُحدد له. الجيشُ الثاني بِقيادة شرحبيل بن حسنة، وهدفهُ بُصرى عاصمة حوران، وتراوح عديده بين ثلاثة وأربعة آلاف مُقاتل على أن يسلك طريق معان - الكرك - مأدبا - البلقاء - بُصرى، وخرج هذا الجيش من المدينة في 27 رجب المُوافق فيه 7 تشرين الأوَّل (أكتوبر).[63] الجيشُ الثالث بِقيادة أبي عُبيدة بن الجرَّاح، وهدفهُ حِمص، ويتراوح عديده بين ثلاثة وأربعة آلاف مُقاتل، على أن يسلك طريق وادي القُرى - الحجر - ذات المنار - زيراء - مآب - الجابية - حِمص، وخرج إلى وجهته في 7 شعبان المُوافق فيه 17 تشرين الأوَّل (أكتوبر). الجيشُ الرَّابع بِقيادة عمرو بن العاص، وهدفه فلسطين، ويتراوح عديده بين ستَّة وسبعة آلاف مُقاتل، على أن يسلك طريق البحر الأحمر حتَّى العقبة فوادي القُرى فالبحر الميِّت وُصولًا إلى بيت المقدس، وخرج من المدينة في 3 مُحرَّم 13هـ المُوافق فيه 10 آذار (مارس) 634م. الجيشُ الخامس بِقيادة عِكرمة بن أبي جهل، وقد أبقاهُ في المدينة كاحتياط، وبلغ عديده نحو ستَّة آلاف مُقاتل.
وأوصى أبو بكر قادة الجُيوش باللين مع الجُنود وعدم تحميلهم ما يفوق طاقتهم للمُحافظة على قُدرتهم القتاليَّة، وأن يُشاور كُلٌ منهم مرؤوسيه للوُصول إلى القرارات السليمة، وبأن يؤمنوا لهم العدل ويُبعدون عنهم الشرَّ والظُلم في وقت السِلم كي يُلازموهم في وقت الحرب، وعدم الفرار عند لقاء العدوّ لِأنَّ ذلك يُغضب الله، وعدم جواز قتل الأولاد والشُيوخ والأطفال والنساء والعُزَّل أو حرق الزرع وقطع الأشجار ونقض العُهود والغدر، وذلك لِكسب قُلوب سُكَّان المناطق المفتوحة، وعدم التعرُّض للبطاركة والرُهبان والنُسَّاك والمُتصوفون في الأديرة والصوامع والكنائس، على أن يُخيَّر المُشركون المُوالون للشيطان بين القتال أو الإسلام أو الجزية........ يتبع
المصادر
ــــــــــــــ
1- طقّوش، مُحمَّد سُهيل تاريخ الخُلفاء الرَّاشدين: الفُتوحات والإنجازات السياسيَّة
2- صحيح مُسلم » كتاب الفتن وأشراط الساعة » باب ما يكونُ من فتوحات المُسلمين قبل الدجَّال
3- المسعودي، مُرُوجُ الذهب ومعادنُ الجوهر
4- ابن الاثير - الكامل في التاريخ
5- .ابنُ سعيدٍ الأندلُسيّ نشوة الطرب في تاريخ جاهليَّة العرب
6- اليعقوبي - تاريخ اليعقوبي
7 - ابن هشام - السيرة النبوية
8- الطبري - تاريخ الرسل
9- الواقدي -المغازي
10- البلاذري - فتوح البلدان
11- الازدي - فتوح الشام
12- سويد ياسين - معارك خالد بن الوليد
13- ابن عساكر - تاريخ دمشق
14- ابن خياط - تاريخ خليفة بن خياط
15- ابن كثير - البداية والنهاية
16- كمال احمد عادل - الطريق الى المدائن
17- ابن سعد - الطبقات الكبرى
18- فتوح الشام .الواقدي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق