الجمعة، 15 نوفمبر 2019

ابو بكر الصديق رضي الله عنه//بقلم الكاتب الاديب الراقي/الشاعر المبدع/د.صالح العطوان الحيالي

ابو بكر الصديق رضي الله عنه وادارته الازمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ د.صالح العطوان الحيالي - العراق - 12-11-2019
الأزمة في تعريفها الشامل تعني تهديداً خطيراً متوقعا أو غير متوقع لأهداف وقيم ومعتقدات وممتلكات الأفراد أو المنظمات والدول، وبالتالي فهي اللحظة الحرجة ونقطة التحول التي تتعلق بالمصير الإداري أو الاقتصادي أو السياسي للمنظمة أو الدولة، وغالباً ما تتزامن مع عنصر المفاجأة، مما يتطلب مهارة عالية لإدارتها والتصدي لها بشكل شرعي وقانوني وليس بقرارات عنيفة أو ارتجالية.
أوردت الموسوعة الإدارية تعريفاً لإدارة الأزمات بأنها: ”المحافظة على الأصول وممتلكات المنظمة، وعلى قدرتها على تحقيق الإيرادات، كذلك المحافظة على الأفراد والعاملين بها ضد المخاطر المختلفة، والعمل على تجنب المخاطر المحتملة أو تخفيف أثرها على المنظمة، في حالة عدم التمكن من تجنبها بالكامل“، وهذا ينطبق أيضا على الدولة وإداراتها. إنها :" فن إدارة السيطرة من خلال رفع كفاءة وقدرة نظام صنع القرارات سواء على المستوى الجماعي، أو الفردي للتغلب على مقومات الآلية البيروقراطية الثقيلة التي قد تعجز عن مواجهة الأحداث والمتغيرات المتلاحقة والمفاجأة وإخراج المنظمة من حالة الترهل والاسترخاء التي هي عليها "
منذ أن خلق الله آدم عليه السلام تحدث الابتلاءات والأزمات الأزمة تلو الأزمة، بدأت بوسوسة الشيطان لآدم وزوجه وإخراجهما من الجنة، كانت أزمة عظيمة لهما عليهما السلام، إلاّ أن الله سبحانه وتعالى ألهمه الحل بالاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله فغفر له, ثم بالصراع بين الأخوين قابيل وهابيل، وكذا كافة الرسل ابتلوا ووقعوا في أزمات أثناء دعوة أقوامهم ولكن الله نجاهم من تلك الأزمات هم ومن آمن معهم من أقوامهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو وصحابته رضوان الله عليهم قد وقعوا في عدد من الابتلاءات والأزمات، مثل: (الحصار في شعب أبي طالب ثلاث سنوات، والهجرة من مكة إلى المدينة، وغزوة أحد، وذات الرقاع … وغيرها) والتي لولا الله ما قامت لدولة الإسلام قائمة.بعد ان عرفنا الازمة لنتعرف على اول خليف للمسلمين هو ..
أبو بَكر الصّدِّيق عبد الله بن أبي قُحافة التَّيمي القُرَشيّ (50 ق هـ - 13هـ / 573م - 634م) هو أولُ الخُلفاء الراشدين، وأحد العشرة المُبشرين بالجنَّة، وهو وزيرُ نبيّ الإسلام مُحمد وصاحبهُ، ورفيقهُ عند هجرته إلى المدينة المنورة. يَعدُّه أهل السنة والجماعة خيرَ الناس بعد الأنبياء والرسل، وأكثرَ الصَّحابة إيماناً وزهداً، وأحبَّ الناس إلى النبي مُحمد بعد زوجته عائشة. عادة ما يُلحَق اسمُ أبي بكرٍ بلقب الصّدِّيق، وهو لقبٌ لقَّبه إياه النبي مُحمد لكثرةِ تصديقه إياه.
ولد أبو بكر الصدِّيق في مكة سنة 573م بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر، وكان من أغنياء قُريش في الجاهليَّة، فلما دعاه النبي مُحمد إلى الإسلام أسلمَ دون تردد، فكان أول من أسلم مِن الرجال الأحرار. ثم هاجر أبو بكر مُرافقاً للنبي مُحمد من مكة إلى المدينة، وشَهِد غزوة بدر والمشاهد كلها مع النبي مُحمد، ولما مرض النبي مرضه الذي مات فيه أمر أبا بكر أن يَؤمَّ الناس في الصلاة. توفي النبي مُحمد يوم الإثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ، وبويع أبو بكر بالخِلافة في اليوم نفسه، فبدأ بإدارة شؤون الدولة الإسلامية من تعيين الولاة والقضاء وتسيير الجيوش، وارتدت كثير من القبائل العربية عن الإسلام، فأخذ يقاتلها ويُرسل الجيوش لمحاربتها حتى أخضع الجزيرة العربية بأكملها تحت الحُكم الإسلامي، ولما انتهت حروب الرِّدة، بدأ أبو بكر بتوجيه الجيوش الإسلامية لفتح العراق وبلاد الشَّام، ففتح مُعظم العراق وجزءاً كبيراً من أرض الشَّام. توفي أبو بكر يوم الإثنين 22 جمادى الآخرة سنة 13هـ، وكان عمره ثلاثاً وستين سنة، فخلفه من بعده عمر بن الخطَّاب
.بعد أن أنجز المسلمون أروع عملية نقل للسلطة -من نبي إلى خليفة- أصبح الخليفة أمام المهام الرئيسة المطروحة، وهي بمجملها مهام فرضها الظرف التاريخي للإسلام في آخر سنة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعضها فرضتها الظروف الناجمة عن وفاته صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الخليفة قد حدد نظرته إلى السلطة وشكل قيادته للمسلمين؛ فإنه في مواجهة المهام التي فرضتها الظروف واجه صعوبة كبيرة، فهو في آن واحد كان مطالباً: بتثبيت سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم. وتعزيز الثقة بالذات لدى الصحابة. وإبقاء المرتدين في موقف البعثرة والتشتت ثم الانكفاء والهزيمة.
والراجح أنه من خلال إنفاذ جيش أسامة بن زيد، وحسم الموقف الاجتهادي من المرتدين، وتطبيق مبدأ الشورى؛ حقق الأمرين الأولين.أما الأمر الثالث، فإن خطواته استغرقت وقتاً طويلاً يبدأ منذ تحرك أسامة بن زيد شمالاً إلى الشام في آخر ربيع الأول سنة (11هـ) إلى تسيير الجيوش الخمس نحو الشام والعراق سنة (21هـ).ويمكننا تتبع هذه الخطوات على النحو التالي:
1- تحشيد القبائل:
بمجرد أن سير الخليفة جيش أسامة قام بتحشيد من بقي من القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم وصيرهم مسالح حول قبائلهم.لقد حققت هذه الخطوة أهدافاً تعبوية متعددة: فهي: عزلت المسلمين من القبائل عن غير المسلمين، وأقامت حاجزاً نفسياً بين الطرفين يحول دون اهتزاز قناعة المسلمين بسبب قلتهم، وإزاء الضغط والقتل من مشركي قبائلهم.وأوجدت خطوطاً دفاعية حول المدينة، وطورت نظام الدفاع الذاتي عن النفس وتحمل مسئولية المبادرة واتخاذ القرار.
2- الحرب بالرسل أو سياسة الإلهاء:
اتبع سياسة النبي صلى الله عليه وسلم في إلهاء المرتدين بالرسل، فكلما ورد رسول بخبر قوم رده برسالة وأتبع الرسل بالرسل تأجيلاً للمصادمة لحين عودة جيش أسامة.
ويبدو أن هذه السياسة كانت فعالة وحققت أهدافها؛ لأنها أبقت عامل الزمن الناجم عن غياب جيش المدينة -أربعون يوماً- إيجابياً لصالح الخلافة· وبالتالي أبقت زمام المبادرة بيدها حتى سماها المؤرخون بـ(حرب الرسل).
3- مهاجمة بؤر الردة المتحركة:
لقد كونت بعض القبائل تجمعاً قبلياً وجربوا الغارة على المدينة من اتجاهين؛ غير أنهم وجدوا الخليفة قد سد أنقاب المدينة بالمقاتلة، ثم تبعهم فهزمهم وحرق بعض قياداتهم بالنار [هو الفجاءة بن إياس لغدره ونكثه العهد؛ إذ جاء يطلب سلاحاً ليحارب به المرتدين، فأخذ السلاح وحارب به المسلمين الآمنين وعاث في الطريق ينهب ويسلب ويهدر الدماء! انظر عبقرية الصديق للعقاد]، لقد حققت هذه الخطوة أهدافها، وأبرزها:
أ- تعزيز ثقة المسلمين بالخلافة.
ب- إرهاب المرتدين وإعطاؤهم فكرة حية عن جدية الخلافة في توجهها.
جـ- منع تجميع القبائل المرتدة والحيلولة دون تكاتفها.
د- كما أنها عززت صلة المدينة إدارياً ببعض الأطراف.
هـ- وأمنت جباية بعض الصدقات، وتعزيز اقتصاد الخلافة.
4- الهجوم الشامل على المرتدين:
بدأت هذه الخطوة بعد عودة جيش أسامة، وما ترتب على ذلك من تحسن القدرة الاقتصادية للخلافة؛ حيث عقد الخليفة أحد عشر لواءً.
أعطى الخليفة إلى كل قائد عهده، وحملهم كتاباً واحداً إلى العرب كافة حدد في الأول واجبات كل أمير، وحدد في الثاني فهم الخلافة لإسلام المسلم، وما يترتب عليه من التزامات، وموقفها من المرتد.
وتكشف وثائق المصالحات التي عقدت مع بعض القبائل عن سياسة الخلافة من المرتد الذي يقاتل ويهزم، وهي:
اولا - القتل على الرجال والسبي على النساء والذراري.
ثانيا - الإجلاء عن الأرض.
ثالثا - المصالحة لمن لا يقاتل بشرط.
رابعا - نزع الحلقة (السلاح) والكراع منهم.
خامسا - اعتبار ما أصابه المسلمون من أموالهم غنائم. وحدد هذه الأموال في (الصفراء والبيضاء) أي الذهب والفضة.
سادسا - تعويض المسلمين عما أخذه منهم المرتدون.
سابعا - رفع المرتدين دية شهداء المسلمين.
ثامنا - إقرار المرتدين أن قتلاهم في النار.
تحقيق كامل الأهداف!:حققت سياسة الخليفة كامل أهدافه:
1- فقد تم له القضاء على الردة.
2- وتثبيت سياسة النبي صلى الله عليه وسلم.
3- وتعزيز الوحدة التي حققها في حدود الجزيرة العربية.
4- واستكمال التنظيم الإداري والعسكري والاقتصادي والاجتماعي لدولة يقودها الصحابة ويرأسها الخليفة.
5- وحقق نقلة تاريخية في بناء القوة العسكرية القادرة على الضرب بعيداً -ليس عن مركز الدولة وإنما- عن حدودها أيضاً. لذلك تجده يقف في المسجد مخاطباً الناس بقوله:
" واعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عول أن يصرف همته إلى الشام فقبضه الله إليه، واختار ما لديه، ألا وإني عازم أن أوجه أبطال المسلمين إلى الشام بأهليهم ومالهم؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم أنبأني بذلك قبل موته".
* الجهادية والاتباع في سياسة الصديق:
ـــــــــــــــــــ لقد أتاح قدم الإسلام للخليفة أبي بكر مواكبة نزول القرآن أكثر من غيره، مما أعطاه فرصة تكوين مبدئية شاملة استوعبت الأسس العقائدية اللازمة، وتعزيزها سلوكياً من خلال المواقف العملية المعبرة، وبالتالي امتلاك تاريخية أطول لتلك المبدئية. إن طبيعته الهادئة الوديعة -أو كما وصفه المؤرخون (كان مألوفاً لقومه)- شكلت عاملاً إيجابياً لصالح الاستيعاب العقائدي والتعبير السلوكي العميق عنه، وبالتالي تكوين تلك الشخصية الجهادية المتزنة القادرة على اتخاذ القرار الصائب، والبقاء دائماً في الجانب الصحيح، كما تقتضيه العقيدة وتستوجبه الصحبة الطويلة. وقد كانت هذه الصفات تختفي خلف هدوء القناعة يقيناً بالعقيدة والطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، أما وقد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وانتقل أبو بكر إلى الموقع الأول، فقد فاجأ المسلمين -والصحابة منهم بشكل خاص- بجوانب شخصيته! فعندما صعب على المسلمين التسليم بوفاته وارتبكوا وذهبوا كل مذهب؛ جاء أبو بكر من منزله بالسنح، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه، فقال: {بأبي أنت وأمي، أما الموتة الأولى -التي كتب الله عليك- فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعد موتة أبداً} ثم رد الثوب على وجهه وخرج إلى الناس وهو يسمع ما يقولون، فوقف خطيباً يؤكد حقيقة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعندما أرجف الناس واشرأب النفاق، واتسع نطاق الردة، واضطرب الصحابة واقترحوا عليه الإبقاء على جيش أسامة بن زيد؛ كشف عن عميق وعيه وبعد رؤيته بالإصرار على إنفاذ جيش أسامة وتأكيد استمرار سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم أولاً، وهي مسألة مهمة جداً لضمان وحدة الفكر والاجتهاد.
غير أنه أدرك أيضاً الاحتمالات العملية التي يمكن أن تترتب على الإبقاء على الجيش؛ أولها: الإيحاء بانكفاء المسلمين في المدينة وترك الجزيرة مسرحاً للمرتدين يصولون ويجولون فيها.
كما أنه أدرك أن الإبقاء على جيش أسامة تعلق بأسباب القوة التقليدية، بينما المفروض في روح الدعوة الإسلامية أن تخلق قوتها باستمرار من خلال استثارة العوامل في الظرفين المكاني والزماني والتعبير عن الذات. فهو إذن ينشد في المشورة جهادية الرؤية وليس الواقعية المجردة، لأن جهادية الرؤية تعكس الثقة بالمبادئ والروح الجهادية، بينما الواقعية المجردة تعكس التوسل بالدنيا تقليدياً.
كما أن خروج الجيش يعطي الانطباع الأول عن تقدير الخلافة لحركات الردة، وأنها حركات هامشية لا تخيف المبادئ ولا الدولة، فتهز قناعات المرتدين بدل أن تهز الردة قناعات الصحابة والمسلمين.
فلما خرج الجيش خرج هو بمن بقي لملاقاة المرتدين، وهو قرار صائب مكمل لقراره السابق، لأنه أتاح -جهادياً- تكوين قوة جديدة للعقيدة تتعامل مع المرتدين، وبذلك حقق هدفين:
1- تجديد القوة العسكرية للدولة والعقيدة.
2- إظهار جانب قوة آخر للدولة ومسرحاً جديداً لفعله يشد الخصوم ويمنع التقاءهم ويبقيهم على بعثرتهم.
غير أن المهم في الموقف أن خروج أبي بكر لحرب المرتدين جاء بعد أن أعطى للصحابة مفهومه للإيمان والطاعة، فهو إذاً لم يفرق بين من كفر أو من امتنع عن دفع الزكاة، قد اعتبر كلا نوعي الحركات الارتدادية خارجاً على العقيدة والدولة.
وإن موقف النوع الثاني في الارتداديين يجزئ الموقف العام أولاً، ويتخذ لنفسه موقفاً متميزاً ضمن الدولة وبنائها السياسي، فإذا قبل الخليفة تحللهم من شرط الزكاة فمعنى هذا أنه أقر لهم موقفاً خاصاً في اتفاق معلن؛ وهو خلل في البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي للأمة؛ لأنه يهدد الوحدة ويقود إلى معارضة نهائية مستقبلاً. لهذا عد الجميع في موضع مجابهة مع الدولة وتمسك بتسليم المرتدين بمبادئ وأسس الإسلام كافة، إدراكاً لقيمة تضافر تلك المبادئ والأسس في إرساء أسس الأمة الجديدة، وانتصار العقيدة الجديدة.فالذين أرادوا الإيمان بالله ورسوله وأقاموا الصلاة وحجبوا الزكاة يريدون دنيا بدون دين، فمثلهم مثل الذين أرادوا الاستقلال عن الدولة فاختاروا الدين بدون دولة، وهو إخلال بالترابط بين التوحيد والوحدة.لهذا قيل في أبي بكر: إنه أفضل الناس بشيء كان في قلبه وليس لأنه أكثرهم صلاة وصياماً) اهـ. بشيء من التصرف.بهذه السياسة الحكيمة والقيادة الحازمة تمكن الصديق رضي الله عنه من القضاء على الفتن الداخلية بجميع شعبها وأشكالها، وذلك أول عمل ينبغي أن يقوم به أي حاكم، وأول شرط لاستقرار أي حكومة، ودوام أي نظام، وإلا ضعفت الحكومة في نهاية المطاف وانهار النظام، فضلاً عن الانشغال عن المهام الأساسية الأخرى في الداخل أو الخارج؛ وهو ما حدث لسيدنا عثمان رضي الله عنه في النصف الثاني من خلافته، وسيدنا علي رضي الله عنه يوم آلت إليه الخلافة؛ فكانت فترة عصفت فيها الفتن بالأمة عصفاً، فانقسمت على نفسها، وخاضت حروباً أهلية لا طائل من ورائها، ولم تحقق أي هدف من أهدافها، بل ابتعدت كثيراً عنها، وكلما مر زمن زادت الأمور تعقيداً واضطراباً!
وبغض النظر عن الأسباب والأعذار؛ فإن علياً لم يستطع القضاء على الفتنة ولم يتمكن من السير على سياسة تعود بالأمة إلى سابق جماعتها ووحدتها؛ لينطلق بها مرة أخرى إلى حيث يريد لها أن تنشر رسالتها·بل تفاقمت الأمور وكثرت الفتن والاضطرابات وقوي الخصوم؛ حتى تمكنوا من قتله!
وغادر موقعه في القيادة شهيداً والأمة مضطربة منقسمة لم تتوحد إلا بعد حين!
خليفة القائد الأعظم:
ـــــــــــــــــــــــــ إن عبقرية الصديق وكفاءته القيادية، وقدرته على حشد الناس، وأثره الفاعل في انقيادهم له والتفافهم حول شخصه، وهيبتهم وإجلالهم لشخصيته، وحبهم وانجذابهم لها، لا يمكن الإحاطة به أو تصوره كما ينبغي، وتقديره حق قدره؛ ما لم تستحضر أمراً في غاية الأهمية، ألا وهو أن الصديق جاء إلى منصة الحكم والقيادة، بعد أعظم قائد وأكبر شخصية آسرة حكمت الأرض؛ ألا وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم المؤيد من السماء! إن من الطبيعي أن تقع المقارنة بين اللاحق والسابق في أي موقع من مواقع الحياة ووظائفها، وإذا كان السابق قد أوتي نصيباً من التميز وعناصر الجذب والاستيعاب، فإن اللاحق مهما أوتي من مؤهلات ما لم تكن مقاربة لمن سبقه؛ فإن الحظ سيكون إلى غير جانبه، مما يؤدي إلى ضعف التفاف الجمهور حوله لشعورهم بالفجوة الفاصلة بينهما! ومهما أجهد الثاني نفسه ليبدو مقبولاً وجذاباً فلن يفلح إلا أن تكون الفجوة ضيقة أو معدومة.
فما بالك بشخص جاء بعد محمد صلى الله عليه وسلم!! فقاد الناس قيادة وساسهم سياسة حتى كأن شيئاً لم يتغير بل كثر الخير وانتشر، واستقرت الأمور، وتوسعت الدولة، وثبتت أركانها، واستطاع أن يدير الناس في فلكه، ويجذبهم إلى مركزه، فصاروا يطيفون به كما تطيف الكواكب بالنجم الكبير!
* تصديه للأخطار الخارجية: وجهاده في نشر رسالة الإسلام:
وهو من أدل الدلائل على عبقرية الصديق السياسية وكفاءته المتميزة في التخطيط والقيادة العسكرية·
لقد استثمر الحالة الجديدة التي صارت عليها الأمة بعد القضاء على فتنة المرتدين، وما اكتسبته من خبرة في القتال وثقة بالنفس وتوحد في الصف للقيام بأعظم عمل إيجابي؛ ألا وهو الجهاد في سبيل الله لنشر مبادئ الإسلام، وأول ثمرة من ثمار هذا العمل: إشغال الناس عن الفتن وما يمكن أن يتولد عن الحروب الداخلية التي خاضوها قريباً من التفكير بالثأر والعمل للانتقام وزعزعة الصف، فنادى فيهم نداءه وعبأهم لمقاتلة أعظم دولتين في زمانه فارس والروم، فعصف بهما عواصفه، وما قضى إلا وقد وجه لكل منهما الضربة الموجعة المميتة، إذ حررت جيوشه غربي العراق وتمركزت في (الحيرة) تتخذ منها قاعدة بانتظار فرصة القفز إلى (المدائن) عاصمة الفرس المغتصبين. أما الروم فقد انتزع منهم الشام، ولما جاءته المنية كانت جموع المجاهدين تتعبأ في ساحة اليرموك؛ لتخوض أعظم معركة فاصلة في تاريخ الجبهة الغربية الملتهبة، بقيادة ألمع وأعظم القادة العسكريين الميدانيين في التاريخ سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه، الذي كان الصديق وراء اختياره·
كل ذلك تم في غضون سنتين اثنتين فقط هي فترة حكمه المباركة والحافلة بالأحداث الجسام! أليس هذا من العجب العجاب؟!
أعظم خطة عسكرية في التاريخ:
ــــــــــــــــــــــــــــــــ حينما نقول: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه من طراز القادة التاريخيين العظام، لا نقول ذلك بدافع الحب والإعجاب المجرد.لقد كان الصديق مع النبي صلى الله عليه وسلم يخطط ويقود ويوجه، وهو يشاركه الرأي والمشورة، لكن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم كانت تغطي عليه وتحجب بروز مواهبه بحيث تكون ظاهرةً للقريب والبعيد، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرف من هو أبو بكر، فكان يقدمه على الأصحاب، حتى إذا غادرت الشمس سماء الإسلام برز البدر ينير الوجود ويسحب ذيل نوره على الكواكب والنجوم.إن أبا بكر هو واضع الخطة العسكرية التي أبادت الفرس وحطمت دولتهم فأزالتها -وإلى الأبد- من الوجود! إن خطة عسكرية حققت ما عجز عنه الرومان والبابليون، وهزمت قوماً كانوا قد محوا -خلال تاريخهم- خمس دول وحضارات قامت في العراق هي: سومر وأكد وآشور والحضر وبابل! وكانت وقعاتهم وسطواتهم بالروم يشهدها العالم إلى زمن مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومنها انتصارهم الذي سجله القرآن بقوله: (( غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ))[الروم:2-3] حتى لقد وصل الفرس إلى عاصمة الرومان الشرقية -القسطنطينية- لهي حقاً أعظم خطة عسكرية في التاريخ. لقد أيس البابليون وعجز الروم في دهورهم المتطاولة عن إسقاط دولة فارس، ولم يفلح أي قائد عسكري لامع طيلة تاريخهم في أن يضع خطة يجتث بها دولتهم ويسقطها إلى الأبد. وعجز العرب كذلك! حتى إذا استيأسوا وهم يحاولون ويأملون ويظنون بأنفسهم الظنون؛ جاءهم أبو بكر ليضع تلك الخطة العسكرية التاريخية الأسطورية، ويرسمها وهو جالس مع أركان حربه فوق رمال الجزيرة.الملامح الأساسية للخطة:وهذه هي الملامح الأساسية للصورة الرائعة لتلك الخطة:
قسم أبو بكر الخطة إلى مرحلتين:
المرحلة الأولى:
ــــــــــــــــــــ عبارة عن معارك استنزاف سريعة متلاحقة؛ تنهك الخصم الفارسي وتشتت قواه وتستنفدها، وتفقده الثقة بنفسه وتعيد الثقة وتزرعها في نفوس العرب؛ حتى إذا تم استنزاف الخصم أجهز عليه بمعركة نهائية كبيرة فاصلة أعد لها طويلاً.
تنتهي المرحلة الأولى بتحرير غربي العراق والاستيلاء على (الحيرة) التي هي أنسب موقع لمن يريد تهديد العاصمة من العرب، إن وجهها إلى سواد العراق وظهرها إلى صحراء العرب، فيمكن التوغل منها بحذر إلى الداخل أو الانسحاب منها إلى الصحراء لإعداد العدة واستئناف الهجوم مرة أخرى.
المرحلة الثانية:
ــــــــــــــــــ وهي عبارة عن معركة كبيرة فاصلة يخوضونها بعد أن يكون الفرس قد أنهكت قواهم وفقدوا الثقة بأنفسهم، في الوقت الذي يكون العرب قد استعادوا هذه الثقة، وجمعوا قواهم وحشدوها لكسب المعركة التي سيتم بعدها الانقضاض على عاصمة الفرس -المدائن- لإسقاطها وإحكام السيطرة عليها.
أوكل تنفيذ المرحلة الأولى إلى سيف الله خالد بن الوليد وعياض بن غنم على أن يدخل الأول العراق من جنوبه والثاني من أعلاه؛ لمشاغلة العدو وشلّ تفكيره وتشتيت قواه، فأيهما وصل الحيرة -وهي الهدف الأول لهما- قبل صاحبه كان هو الأمير أو القائد العام، فأتم المهمة كلها خالد بن الوليد [لأن عياضاً حصره الروم والفرس في دومة الجندل حتى خلصه خالد] وخاض في سبيل تحقيق هذا الهدف الكبير -وفي غضون سنة واحدة!- بضع عشرة معركة كبيرة خاطفة استطاع العرب بها أن يحققوا أهدافهم ضمن تلك المرحلة كاملة، وصاروا يتأهبون لخوض المعركة الفاصلة وهم في أعلى المعنويات وحالات الاستعداد.بعد احتلال الحيرة صدر الأمر من العاصمة لسيف الله خالد بالتوجه إلى الشام، وعاجلت المنية أبا بكر فأكمل تنفيذ الخطة الفاروق عمر، فكانت معركة (القادسية) التي تم من بعدها إسقاط المدائن وإخماد أسطورة النار الخالدة. فلو لم يكن للصديق إلا هذا الإنجاز في عالم العسكرية الذي عز على متناول عمالقة الرومان والبابليين وسادات العرب لكفاه فخراً بين عظماء التاريخ، ودليلاً على عبقريته العسكرية وكفاءته القيادية!..
المصادر
ـــــــــــ
1- ادارة الازمات, عالم الكتب الحديث,اربد الاردن,
2- استراتيجيات ادارة الازمات والكوارث ,السيد سعيد
3- فتح الباري (7/9)
4- الإصابة (2/341)
5- أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير الجزري،
6- الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني،
7- الولاية على البلدان، عبد العزيز إبراهيم العمري
8- سيرة أبي بكر الصديق، على الصلابي
9- تاريخ دمشق لابن عساكر، ج2
10- نسب قريش - مصعب الزبيري ، ج1
11- ألكامل في التاريخ، ابن الأثير الجزري، ج2
12- تاريخ الخلفاء، للإمام جلال الدين السيوطي
13- البداية والنهاية، ابن كثير
14- عبقرية الصديق للعقاد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق