ذي قار المعركة التي وحدت العرب لاول مرة في التاريخ
ـــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق- 4-11-2019
يوم ذي قار هو يوم هزمت به العرب العجم وذكر الأصفهاني في كتابه الأغاني أنه حدث في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وقع فيه القتال بين العرب والفرس في العراق وانتصر فيه العرب. وكان سببه أن كسرى أبرويز غضب على النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وقد أوغر صدره عليه زيد بن عدي العباديّ لأنه قتل أباه عدي بن زيد، فلجأ النعمان إلى هانئ بن مسعود الشيباني فاستودعه أهله وماله وسلاحه، ثم عاد فاستسلم لكسرى، فسجنه ثم قتله. وأرسل كسرى إلى هانئ بن مسعود يطلب إليه تسليمه وديعة النعمان، فأبى هانئ دفعها إليه دفعاً للمذمة، فغضب كسرى على بني شيبان وعزم على استئصالهم، فجهّز لذلك جيشاً ضخماً من الأساورة الفرس يقودهم الهامرز و جلابزين، ومن قبائل العرب الموالية له، من تغلب والنمر بن قاسط وقضاعة وإياد، وولى قيادة هذه القبائل إياس بن قبيصة الطائي، وبعث معهم كتيبتيه الشهباء والدوسر. فلما بلغ النبأ بني شيبان استجاروا بقبائل بكر بن وائل، فوافتهم طوائف منهم، واستشاروا في أمرهم حنظلة بن سيّار العجلي، واستقر رأيهم على البروز إلى بطحاء ذي قار، وهو ماء لبكر بن وائل قريب من موضع الكوفة
تمجد كتب التاريخ الإسلامي والعربي أحداثا عظيمة، مرصعة بالذهب في سجلات الانجازات والتاريخ الحافل.
ومن بين الأحداث التاريخية التي تعتز بها قبائل العرب معركة "ذي قار"، التي صنفت كأعظم انتصار عربي على الفرس في وقت الجاهلية القريبة من الإسلام، وهي المواجهة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأنها :"ذاك يوم انتفصت فيه العرب من العجم".
وكانت العرب في الجزيرة العربية قبائل شتى لم تعرف وحدةً سياسيةً ولا نظاماً شاملاً، لكل قبيلة نظامها، وكانت في الجزيرة مراكز تميزت عن القبائل المتبدّية بنوع من التحضّر، لكنها كانت مدعومةً من جهات خارجية، فكان المناذرة في العراق وولاؤهم لكسرى فارس، والغساسنة في الشام وولاؤهم للروم. فالمناذرة درع الفرس في وجه العرب، كما الغساسنة حصن الروم الأول في وجه العرب
نعرف أن العرب كانوا يعيشون حول مكة، في تجمعات سكانية كبيرة، وكثير من الناس اعتقدوا أنهم يعيشون في الصحراء، وهذا ليس صحيحاً.
فالكثافة السكانية العربية الكبرى، كانت في اليمن والعراق والشام، ففي العراق كانت هناك دولة المناذرة، وهي قديمة وكان يحكمها ملوك.
والغريب أنهم كانوا دائماً يسمون أنفسهم ملوك العرب، باعتبار أن كل جزيرة العرب تتبع في النهاية، لدولة المناذرة وعاصمتها الحيرة.
دولة المناذرة والدولة الفارسية
ـــــــــــــــــ المناذرة كانت في تحالف مع الدولة الفارسية، أو لنقل تحت الحماية الفارسية، لكن الفرس كانوا ينظرون إليهم بأنهم أتباع لهم.
لذلك المؤرخون الرومان، ذكروا أنهم يلقبونهم بعرب فارس، ويلقبون الذين يعودون على الغساسنة التابعين إلى الدولة البيزنطية، بعرب الروم.
لكن الصحيح أن الحيرة كانت مدينة مزدهرة، وفيها عدد هائل من المرافق المهمة، في ذلك الوقت، الفن المعماري والموسيقى والفنون والشعراء والأدباء.
وملوك الحيرة العرب، كانوا مشهورين باستضافتهم لمهرجانات شعرية، والسوق الكبير في جندل، الذي يعقد في كل عام.
الحيرة دائماً كانت تحارب مع الدولة الفارسية، فكان يذهب جيش المناذرة مع جيش الدولة الفارسية، مع كل حروبهم.
بمعنى أن العرب كانوا يقتلون بعضهم بعضاً، لإرضاء القوتين الكبيرتين في ذلك الوقت، أي الفرس والروم.
النعمان بن المنذر وعداءه للدولة الفارسية
في عهد متقدم أي في بداية القرن السابع الميلادي، كان في الحيرة ملك اسمه النعمان بن المنذر، وكان آخر الملوك المهمين للمناذرة.
كان النعمان ليس على وفاق تام مع كسرى الثاني، والدولة الفارسية، لأن النعمان كان دائماً يحاول أن يكون لديه علاقة مع الجميع.
تعامل مع السلطة القائمة في المدائن، فكان كسرى الثاني لا يحب النعمان، لأنه لم يقف مؤيداً له عندما صار الانقلاب العسكري عليه.
ولكن النعمان كان لديه اعتداد بالنفس، وحاول كسرى أن يتعامل معه، فطلب منه أن يبعث بجيش معه لمحاربة الروم.
لكن النعمان تردد ولم يرسل له، فغضب عليه كسرى، وهناك قصص أخرى عن عدة حوادث بينهما، ولكن يمكن أن لا تكون صحيحة.
فقرر كسرى أن يتخلص من النعمان، وأن تكون الحيرة تحت ملك جديد، مطواع لكسرى، فدعاه إلى قصره وقتله عام 607 قبل سنتين من البعثة.
قتل النعمان بن المنذر وأثره على قبائل العرب
ـــــــــــــــــ البداية كان من موقف النعمان بن المنذر، ملك الحيرة (مدينة تاريخية تقع جنب وسط العراق) في تلك الوقت، حيث أصبح يتحامل على كسرى الثاني حاكم الفرس، ويرفض طلباته، ويلمح لإنهاء الرضوخ والولاء له، وتجلى ذلك في كثير من المحطات، على غرار رفض النعمان تزويج ابنته لكسرى، وارساله لرد محرج إلى كسرى، استفزه بانعدام الجمال والأصالة في النساء الفارسيات، حتى يلجأ إلى ابنته العربية ويطلب يدها، هذا الأمر أغضب كسرى كثيرا وجعله يضع أول لمسات المعركة.
بعد هذا، نطق كسرى، وأمر بقدوم النعمان له شخصيا، والذي كان يعرف أن نهايته قد اقتربت دون أي شك، فبدأ رحلة الهرب يطوف بين القبائل والعشائر، يحاول الاختباء والبحث عن حل لتجنب كسرى، وفي كل مرة لا يجد المكان المناسب الذي يحميه، فقرر الذهاب شخصيا إلى كسرى، بعد نصيحة من هانئ بن مسعود الشيباني.
تعرض النعمان إلى خيانة ومكيدة من طرف زيد بن عدي العبادي، الذي كان يلعب دور الرسول بينه وبين كسرى، وأخبره بمعلومات خاطئة وأكد له أنه لم يلقى سوءا في قصر كسرى، ولكن غدر به انتقاما لمقتل أبيه على يد النعمان نفسه.
اختلفت الروايات حول طريقة موت النعمان على يد كسرى، والمؤرخون يؤكدون أنه شرب السم رفقة أولاده ولقي حتفه، وآخرون يوثقون أن كسرى وضعه في السجن حتى أصيب بالطاعون ومات.
وعندما قتل النعمان، كان هذا له أثر كبير على قبائل العرب، لأن الملك الجديد العربي على الحيرة، أراد أن يثأر من القبائل التي كانت تدعم النعمان.
مثل هانئ بن مسعود الشيباني، الذي كان من شيوخ قبيلة بنو بكر بن وائل، وبالمقابل تأذت قبائل العرب في مقتل النعمان، فقد كان مشهوراً بعطاياه وحضوره.
فبعث الفرس جيشاً لكي يصادروا أملاك النعمان بن منذر، التي استودعها النعمان بن المنذر عند بن مسعود الشيباني.
الذي أخذ أولاده ونسائه وبعض أمواله ودروعه، وقال له: سأحمي حريمك كما أحمي حريمي. فأراد كسرى أن يأخذ كل هذا، لكن هاني بن مسعود، وقف ضده ووقفت معه معظم قبائل العرب، حتى القبائل التي كانت تقاتل مع الفرس.
والقبائل التي كانت جزئاً من الجيش الفارسي، ويقال أنهم انتقلوا أثناء المعركة إلى جانب القبائل العربية، ووقعت معركة ذي قار.
معركة ذي قار وانتصار العرب
ــــــــــــــــــ الجيش الفارسي كان حوالي ألفين مقاتل، مع مجموعة جيش من العرب، ألف أو ألفين يقاتلون معهم، والقبائل العربية كانت بحدود ألفين أيضاً.
واشتبكت الجيوش مع بعضها البعض بشدة لأيام متتالية، وكانت معركة مذهلة، استبسل فيها العرب بقوة، وانتصروا على الجيش الفارسي الذي هزم
لم يكتف كسرى بقتل النعمان، وتعيين خليفته على الحيرة، وهو إياس بن قبيصة الطائي، بل بعث إلى هانئ بن مسعود الشيباني، حاكم بادية بنو شيبان التابعة لقبيلة بكر بنو وائل الشهيرة، يطلب منه التنازل على الأملاك والتركة التي أعطاها له النعمان أمانة عنده قبل رحيله لأول مرة من أجل مقابلة كسرى، وهنا كانت البداية ومفترق الطرق، فإما الخضوع وخيانة الأمانة وتسليم ودائع النعمان لكسرى بما فيها حريمه ونساؤه، وإما حفظ العهد والأمانة والقَبول بحرب من كسرى وعملائه تهز الجزيرة العربية.
غضب كسرى ووجه جيوشه المدججة بالأسلحة والفيلة إلى منطقة "ذي قار"، وقبل أن تبدأ الحرب، جرت المراسلات بين بني شيبان وقبائل العرب، كما جرت المراسلات بين قبائل بكر نفسها، فجاءت الوفود من بني بكر بن وائل في اليمامة والبحرين، وكذلك طلب الأسرى من بني تميم عند بني شيبان منهن أن يقاتلوا معهم، واجتمع العرب واتفقوا على محاربة جيوش كسرى الرهيبة، فيما انسحبت قبائل أخرى ورفضت معركة "الإعدام المؤكد" كما كان يتوقعها الأغلبية
لم يكن على العرب سوى التخطيط بذكاء، بقيادة بنو عجل وعلى رأسهم حنظلة بن ثعلبة، وبنو شيبان بقيادة بكر بن يزيد، وأيضا هانئ بن مسعود، الذي أمر بتوزيع عتاد وأمانة النعمان على الجيش لتحفيزهم، واحتدم القتال بين الطرفين في اليوم الأول، وتراجع العرب قليلا أمام هيمنة الفرس، ولكن العطش أتى بهم في اليوم الثاني.
وخطط العرب لعزل الفرس عن المياه واقتيادهم تدريجيا إلى مكان الكمين، ولكنهم هربوا إلى منطقة الجبايات ولم يجدوا شيئا، ثم إلى بطحاء ذي قار، وتبعهم جيش بكر بنو وائل، واشتد القتال ولكن الفرس كان يسقطون بأعداد كبيرة، بعدما جزعوا من العطش، وقتل منهم العرب الآلاف واقتسموا الغنائم فيما بينهم، وانتصر العرب على جيوش كسرى العظيمة، وتم انقاذ الجزيرة العربية من بطش الفرس في معركة ذي قار الراسخة.
كسرى يستشيط غضبا
تكبد كسرى خسارة فادحة، ومهينة له ولهيبته وجيشه، وكان يقال أنه يقطع أيدي كل من ينقل له خبر خسارة جيشه في معركة، وهذا ما جعل إياس بن قبيصة يكذب على كسرى ويهرب منه، بعدما نقل له خبر انتصار جيشه على العرب، ثم فر بحجة رؤية أخيه المريض، قبل أن يأتي رجل من أهل الحيرة، ولم يكن يعرف أن إياس بن قبيصة قد كذب على كسرى، فأخبره بهزيمة جيشه ليتعرض للعقوبة، وهي قطع يديه غضبا على نقله خبر الهزيمة.
رمزية معركة ذي قار
ـــــــــــــــــ كانت رمزية معركة ذي قار، أنه ولأول مرة، شعر العرب أنهم استطاعوا أن يوحدوا قبائلهم المختلفة، في جيش واحد، يقاتل القوة الأهم في ذلك الوقت الدولة الساسانية.
الجيش الساساني في معظمه، كان يحارب في الدولة البيزنطية، لذلك كان هذا الجيش الذي أرسل لمحاربة العرب.
لم يكن الجيش الساساني بقيادته الرئيسية، إنما كان جزء منه، لكن الحقيقة أن رمزية المعركة وانتصار العرب.
كانت أصداءه احتفالية في كل أنحاء جزيرة العرب، فقبائل العرب وساداتهم وعامة الناس، بدأوا يشعروا بالفخر، أنهم استطاعوا أن يهزموا جيش فارس.
هذه النفسية الجيدة التي أحدثتها ذي قار، كانت أيضاُ من المؤشرات الإيجابية، أن العرب رغم تبعيتهم الدائمة للدولة الفارسية من ناحية، والروم من ناحية أخرى.
قادرون في بعض الأحيان، أن يقولوا لا، وأن يصمدوا ويستبسلوا، وأن ينتصروا أيضاً، فالاستقلالية عن مراكز القوى والنفوذ هو ممكن.
تغير نظرة العرب إلى أنفسهم بعد انتصارهم في المعركة
فليس من الحتمية المطلقة أن يكون العربي، تابعاً للقوى العظمى، من المهم أن هذه النفسية، قد دخلت على العرب في عام البعثة النبوية الشريفة.
التي يأتي بها النبي الكريم، يقول أنني لا أتبع لا إلى الفرس ولا إلى الروم، بل سأسس مركزية عالمية جديدة، تحملها هذه القبائل.
التي كانت تاريخياً، لا ترى نفسها إلا في ظل كسرى أو قيصر، إما متحالفة مع الحبشة، أو حلفاء الفرس في اليمن.
قبائل ليس لها تلك المركزية، ولا ذلك الطموح التاريخي، لهذا فإن معركة ذي قار، هي درس تاريخي مهم.
أننا كعرب قادرون على أن نفعل شيئاً، نقاوم به هذه الحتمية التي فرضت علينا، من التبعية للفرس والروم.
والشيء المهم في كل هذه الوقائع، أن العرب حتى تلك المرحلة، كانوا لا ينظرون إلى أنفسهم كتلة واحدة.
فأصبح لديهم رؤية جديدة، فكانت معركة ذي قار رسالة مهمة للجزيرة العربية، والعراق والشام، أن شيئاً ما يمكن أن يؤثر.
استخدام الدين للسيطرة
المناذرة كانوا بالأساس مسيحيين، ومنهم النعمان، وكثير من سكان العراق، ولكن على المذهب النسطوري.
وهو مذهب كانت الدولة الفارسية تؤيده، لأنه كان يتعارض مع مذهب الكنيسة الأرثوذوكسية، التابعة للدولة البيزنطية.
فالدين الذي كان العرب يدينون به، كان بطريقة وبأخرى يسخرونه الفرس لخدمتهم، ضد بيزنطة.
أما الغساسنة فبالعكس، أي أنهم كانوا في الغالب، يحاولون دعم الكنيسة الأرثوذكسية، لكي يكونوا حلفاء لها في السياسة والعقيدة، توظيفاً للدين من قبل الطرفين.
المصادر
1- الكامل في التاريخ لابن الاثير
2- الاغاني لابي الفرج الاصبهاني
3- العقد الفريد للاندلسي
4- يوم ذي قار موقع قصة الاسلام
5 - ايام العرب في الجاهلية. تأليف: محمد أحمد جاد المولى بك وعلي محمد البحاوي. محمد أبو الفضل إبراهيم
6- موسوعة تاريخ إيران السياسي. د حسن كريم الجاف
7- العرب على حدود بيزنطة وإيران
ـــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق- 4-11-2019
يوم ذي قار هو يوم هزمت به العرب العجم وذكر الأصفهاني في كتابه الأغاني أنه حدث في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وقع فيه القتال بين العرب والفرس في العراق وانتصر فيه العرب. وكان سببه أن كسرى أبرويز غضب على النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وقد أوغر صدره عليه زيد بن عدي العباديّ لأنه قتل أباه عدي بن زيد، فلجأ النعمان إلى هانئ بن مسعود الشيباني فاستودعه أهله وماله وسلاحه، ثم عاد فاستسلم لكسرى، فسجنه ثم قتله. وأرسل كسرى إلى هانئ بن مسعود يطلب إليه تسليمه وديعة النعمان، فأبى هانئ دفعها إليه دفعاً للمذمة، فغضب كسرى على بني شيبان وعزم على استئصالهم، فجهّز لذلك جيشاً ضخماً من الأساورة الفرس يقودهم الهامرز و جلابزين، ومن قبائل العرب الموالية له، من تغلب والنمر بن قاسط وقضاعة وإياد، وولى قيادة هذه القبائل إياس بن قبيصة الطائي، وبعث معهم كتيبتيه الشهباء والدوسر. فلما بلغ النبأ بني شيبان استجاروا بقبائل بكر بن وائل، فوافتهم طوائف منهم، واستشاروا في أمرهم حنظلة بن سيّار العجلي، واستقر رأيهم على البروز إلى بطحاء ذي قار، وهو ماء لبكر بن وائل قريب من موضع الكوفة
تمجد كتب التاريخ الإسلامي والعربي أحداثا عظيمة، مرصعة بالذهب في سجلات الانجازات والتاريخ الحافل.
ومن بين الأحداث التاريخية التي تعتز بها قبائل العرب معركة "ذي قار"، التي صنفت كأعظم انتصار عربي على الفرس في وقت الجاهلية القريبة من الإسلام، وهي المواجهة التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأنها :"ذاك يوم انتفصت فيه العرب من العجم".
وكانت العرب في الجزيرة العربية قبائل شتى لم تعرف وحدةً سياسيةً ولا نظاماً شاملاً، لكل قبيلة نظامها، وكانت في الجزيرة مراكز تميزت عن القبائل المتبدّية بنوع من التحضّر، لكنها كانت مدعومةً من جهات خارجية، فكان المناذرة في العراق وولاؤهم لكسرى فارس، والغساسنة في الشام وولاؤهم للروم. فالمناذرة درع الفرس في وجه العرب، كما الغساسنة حصن الروم الأول في وجه العرب
نعرف أن العرب كانوا يعيشون حول مكة، في تجمعات سكانية كبيرة، وكثير من الناس اعتقدوا أنهم يعيشون في الصحراء، وهذا ليس صحيحاً.
فالكثافة السكانية العربية الكبرى، كانت في اليمن والعراق والشام، ففي العراق كانت هناك دولة المناذرة، وهي قديمة وكان يحكمها ملوك.
والغريب أنهم كانوا دائماً يسمون أنفسهم ملوك العرب، باعتبار أن كل جزيرة العرب تتبع في النهاية، لدولة المناذرة وعاصمتها الحيرة.
دولة المناذرة والدولة الفارسية
ـــــــــــــــــ المناذرة كانت في تحالف مع الدولة الفارسية، أو لنقل تحت الحماية الفارسية، لكن الفرس كانوا ينظرون إليهم بأنهم أتباع لهم.
لذلك المؤرخون الرومان، ذكروا أنهم يلقبونهم بعرب فارس، ويلقبون الذين يعودون على الغساسنة التابعين إلى الدولة البيزنطية، بعرب الروم.
لكن الصحيح أن الحيرة كانت مدينة مزدهرة، وفيها عدد هائل من المرافق المهمة، في ذلك الوقت، الفن المعماري والموسيقى والفنون والشعراء والأدباء.
وملوك الحيرة العرب، كانوا مشهورين باستضافتهم لمهرجانات شعرية، والسوق الكبير في جندل، الذي يعقد في كل عام.
الحيرة دائماً كانت تحارب مع الدولة الفارسية، فكان يذهب جيش المناذرة مع جيش الدولة الفارسية، مع كل حروبهم.
بمعنى أن العرب كانوا يقتلون بعضهم بعضاً، لإرضاء القوتين الكبيرتين في ذلك الوقت، أي الفرس والروم.
النعمان بن المنذر وعداءه للدولة الفارسية
في عهد متقدم أي في بداية القرن السابع الميلادي، كان في الحيرة ملك اسمه النعمان بن المنذر، وكان آخر الملوك المهمين للمناذرة.
كان النعمان ليس على وفاق تام مع كسرى الثاني، والدولة الفارسية، لأن النعمان كان دائماً يحاول أن يكون لديه علاقة مع الجميع.
تعامل مع السلطة القائمة في المدائن، فكان كسرى الثاني لا يحب النعمان، لأنه لم يقف مؤيداً له عندما صار الانقلاب العسكري عليه.
ولكن النعمان كان لديه اعتداد بالنفس، وحاول كسرى أن يتعامل معه، فطلب منه أن يبعث بجيش معه لمحاربة الروم.
لكن النعمان تردد ولم يرسل له، فغضب عليه كسرى، وهناك قصص أخرى عن عدة حوادث بينهما، ولكن يمكن أن لا تكون صحيحة.
فقرر كسرى أن يتخلص من النعمان، وأن تكون الحيرة تحت ملك جديد، مطواع لكسرى، فدعاه إلى قصره وقتله عام 607 قبل سنتين من البعثة.
قتل النعمان بن المنذر وأثره على قبائل العرب
ـــــــــــــــــ البداية كان من موقف النعمان بن المنذر، ملك الحيرة (مدينة تاريخية تقع جنب وسط العراق) في تلك الوقت، حيث أصبح يتحامل على كسرى الثاني حاكم الفرس، ويرفض طلباته، ويلمح لإنهاء الرضوخ والولاء له، وتجلى ذلك في كثير من المحطات، على غرار رفض النعمان تزويج ابنته لكسرى، وارساله لرد محرج إلى كسرى، استفزه بانعدام الجمال والأصالة في النساء الفارسيات، حتى يلجأ إلى ابنته العربية ويطلب يدها، هذا الأمر أغضب كسرى كثيرا وجعله يضع أول لمسات المعركة.
بعد هذا، نطق كسرى، وأمر بقدوم النعمان له شخصيا، والذي كان يعرف أن نهايته قد اقتربت دون أي شك، فبدأ رحلة الهرب يطوف بين القبائل والعشائر، يحاول الاختباء والبحث عن حل لتجنب كسرى، وفي كل مرة لا يجد المكان المناسب الذي يحميه، فقرر الذهاب شخصيا إلى كسرى، بعد نصيحة من هانئ بن مسعود الشيباني.
تعرض النعمان إلى خيانة ومكيدة من طرف زيد بن عدي العبادي، الذي كان يلعب دور الرسول بينه وبين كسرى، وأخبره بمعلومات خاطئة وأكد له أنه لم يلقى سوءا في قصر كسرى، ولكن غدر به انتقاما لمقتل أبيه على يد النعمان نفسه.
اختلفت الروايات حول طريقة موت النعمان على يد كسرى، والمؤرخون يؤكدون أنه شرب السم رفقة أولاده ولقي حتفه، وآخرون يوثقون أن كسرى وضعه في السجن حتى أصيب بالطاعون ومات.
وعندما قتل النعمان، كان هذا له أثر كبير على قبائل العرب، لأن الملك الجديد العربي على الحيرة، أراد أن يثأر من القبائل التي كانت تدعم النعمان.
مثل هانئ بن مسعود الشيباني، الذي كان من شيوخ قبيلة بنو بكر بن وائل، وبالمقابل تأذت قبائل العرب في مقتل النعمان، فقد كان مشهوراً بعطاياه وحضوره.
فبعث الفرس جيشاً لكي يصادروا أملاك النعمان بن منذر، التي استودعها النعمان بن المنذر عند بن مسعود الشيباني.
الذي أخذ أولاده ونسائه وبعض أمواله ودروعه، وقال له: سأحمي حريمك كما أحمي حريمي. فأراد كسرى أن يأخذ كل هذا، لكن هاني بن مسعود، وقف ضده ووقفت معه معظم قبائل العرب، حتى القبائل التي كانت تقاتل مع الفرس.
والقبائل التي كانت جزئاً من الجيش الفارسي، ويقال أنهم انتقلوا أثناء المعركة إلى جانب القبائل العربية، ووقعت معركة ذي قار.
معركة ذي قار وانتصار العرب
ــــــــــــــــــ الجيش الفارسي كان حوالي ألفين مقاتل، مع مجموعة جيش من العرب، ألف أو ألفين يقاتلون معهم، والقبائل العربية كانت بحدود ألفين أيضاً.
واشتبكت الجيوش مع بعضها البعض بشدة لأيام متتالية، وكانت معركة مذهلة، استبسل فيها العرب بقوة، وانتصروا على الجيش الفارسي الذي هزم
لم يكتف كسرى بقتل النعمان، وتعيين خليفته على الحيرة، وهو إياس بن قبيصة الطائي، بل بعث إلى هانئ بن مسعود الشيباني، حاكم بادية بنو شيبان التابعة لقبيلة بكر بنو وائل الشهيرة، يطلب منه التنازل على الأملاك والتركة التي أعطاها له النعمان أمانة عنده قبل رحيله لأول مرة من أجل مقابلة كسرى، وهنا كانت البداية ومفترق الطرق، فإما الخضوع وخيانة الأمانة وتسليم ودائع النعمان لكسرى بما فيها حريمه ونساؤه، وإما حفظ العهد والأمانة والقَبول بحرب من كسرى وعملائه تهز الجزيرة العربية.
غضب كسرى ووجه جيوشه المدججة بالأسلحة والفيلة إلى منطقة "ذي قار"، وقبل أن تبدأ الحرب، جرت المراسلات بين بني شيبان وقبائل العرب، كما جرت المراسلات بين قبائل بكر نفسها، فجاءت الوفود من بني بكر بن وائل في اليمامة والبحرين، وكذلك طلب الأسرى من بني تميم عند بني شيبان منهن أن يقاتلوا معهم، واجتمع العرب واتفقوا على محاربة جيوش كسرى الرهيبة، فيما انسحبت قبائل أخرى ورفضت معركة "الإعدام المؤكد" كما كان يتوقعها الأغلبية
لم يكن على العرب سوى التخطيط بذكاء، بقيادة بنو عجل وعلى رأسهم حنظلة بن ثعلبة، وبنو شيبان بقيادة بكر بن يزيد، وأيضا هانئ بن مسعود، الذي أمر بتوزيع عتاد وأمانة النعمان على الجيش لتحفيزهم، واحتدم القتال بين الطرفين في اليوم الأول، وتراجع العرب قليلا أمام هيمنة الفرس، ولكن العطش أتى بهم في اليوم الثاني.
وخطط العرب لعزل الفرس عن المياه واقتيادهم تدريجيا إلى مكان الكمين، ولكنهم هربوا إلى منطقة الجبايات ولم يجدوا شيئا، ثم إلى بطحاء ذي قار، وتبعهم جيش بكر بنو وائل، واشتد القتال ولكن الفرس كان يسقطون بأعداد كبيرة، بعدما جزعوا من العطش، وقتل منهم العرب الآلاف واقتسموا الغنائم فيما بينهم، وانتصر العرب على جيوش كسرى العظيمة، وتم انقاذ الجزيرة العربية من بطش الفرس في معركة ذي قار الراسخة.
كسرى يستشيط غضبا
تكبد كسرى خسارة فادحة، ومهينة له ولهيبته وجيشه، وكان يقال أنه يقطع أيدي كل من ينقل له خبر خسارة جيشه في معركة، وهذا ما جعل إياس بن قبيصة يكذب على كسرى ويهرب منه، بعدما نقل له خبر انتصار جيشه على العرب، ثم فر بحجة رؤية أخيه المريض، قبل أن يأتي رجل من أهل الحيرة، ولم يكن يعرف أن إياس بن قبيصة قد كذب على كسرى، فأخبره بهزيمة جيشه ليتعرض للعقوبة، وهي قطع يديه غضبا على نقله خبر الهزيمة.
رمزية معركة ذي قار
ـــــــــــــــــ كانت رمزية معركة ذي قار، أنه ولأول مرة، شعر العرب أنهم استطاعوا أن يوحدوا قبائلهم المختلفة، في جيش واحد، يقاتل القوة الأهم في ذلك الوقت الدولة الساسانية.
الجيش الساساني في معظمه، كان يحارب في الدولة البيزنطية، لذلك كان هذا الجيش الذي أرسل لمحاربة العرب.
لم يكن الجيش الساساني بقيادته الرئيسية، إنما كان جزء منه، لكن الحقيقة أن رمزية المعركة وانتصار العرب.
كانت أصداءه احتفالية في كل أنحاء جزيرة العرب، فقبائل العرب وساداتهم وعامة الناس، بدأوا يشعروا بالفخر، أنهم استطاعوا أن يهزموا جيش فارس.
هذه النفسية الجيدة التي أحدثتها ذي قار، كانت أيضاُ من المؤشرات الإيجابية، أن العرب رغم تبعيتهم الدائمة للدولة الفارسية من ناحية، والروم من ناحية أخرى.
قادرون في بعض الأحيان، أن يقولوا لا، وأن يصمدوا ويستبسلوا، وأن ينتصروا أيضاً، فالاستقلالية عن مراكز القوى والنفوذ هو ممكن.
تغير نظرة العرب إلى أنفسهم بعد انتصارهم في المعركة
فليس من الحتمية المطلقة أن يكون العربي، تابعاً للقوى العظمى، من المهم أن هذه النفسية، قد دخلت على العرب في عام البعثة النبوية الشريفة.
التي يأتي بها النبي الكريم، يقول أنني لا أتبع لا إلى الفرس ولا إلى الروم، بل سأسس مركزية عالمية جديدة، تحملها هذه القبائل.
التي كانت تاريخياً، لا ترى نفسها إلا في ظل كسرى أو قيصر، إما متحالفة مع الحبشة، أو حلفاء الفرس في اليمن.
قبائل ليس لها تلك المركزية، ولا ذلك الطموح التاريخي، لهذا فإن معركة ذي قار، هي درس تاريخي مهم.
أننا كعرب قادرون على أن نفعل شيئاً، نقاوم به هذه الحتمية التي فرضت علينا، من التبعية للفرس والروم.
والشيء المهم في كل هذه الوقائع، أن العرب حتى تلك المرحلة، كانوا لا ينظرون إلى أنفسهم كتلة واحدة.
فأصبح لديهم رؤية جديدة، فكانت معركة ذي قار رسالة مهمة للجزيرة العربية، والعراق والشام، أن شيئاً ما يمكن أن يؤثر.
استخدام الدين للسيطرة
المناذرة كانوا بالأساس مسيحيين، ومنهم النعمان، وكثير من سكان العراق، ولكن على المذهب النسطوري.
وهو مذهب كانت الدولة الفارسية تؤيده، لأنه كان يتعارض مع مذهب الكنيسة الأرثوذوكسية، التابعة للدولة البيزنطية.
فالدين الذي كان العرب يدينون به، كان بطريقة وبأخرى يسخرونه الفرس لخدمتهم، ضد بيزنطة.
أما الغساسنة فبالعكس، أي أنهم كانوا في الغالب، يحاولون دعم الكنيسة الأرثوذكسية، لكي يكونوا حلفاء لها في السياسة والعقيدة، توظيفاً للدين من قبل الطرفين.
المصادر
1- الكامل في التاريخ لابن الاثير
2- الاغاني لابي الفرج الاصبهاني
3- العقد الفريد للاندلسي
4- يوم ذي قار موقع قصة الاسلام
5 - ايام العرب في الجاهلية. تأليف: محمد أحمد جاد المولى بك وعلي محمد البحاوي. محمد أبو الفضل إبراهيم
6- موسوعة تاريخ إيران السياسي. د حسن كريم الجاف
7- العرب على حدود بيزنطة وإيران
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق