السبت، 4 يوليو 2020

قصيدة بعنوان((موقعة الصنبرة ))بقلم الكاتب الاديب الراقي /الشاعر المبدع/ د. صالح العطوان الحيالي

"موقعة الصنبرة " المعركة التي مهدت الطريق لصلاح الدين الايوبي
ـــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق- 18- حزيران 2020
الصِّنَّبْرَة ... موضع في شمال الأردن وقد أورده الحازمي بقوله : “بكسر الصاد وتشديد النون المفتوحة ثم باء موحدة ساكنة ، ناحية من الأردن ، كان معاوية يشتو بها وكما كان عبد الملك ينتقل في البلاد حسب فصول السنة ؛ فكان يشتي في الصنبرة جنوبي طبرية عاصمة جند الأردن
وعند ياقوت : “موضع بالأردن ، مقابل لعقبة أفيق ، بينه وبين طبرية ثلاثة أميال ، كان معاوية يشتو بها والصنبر بكسر الباء ويقال الصنبر بثلاث كسرات و أورد شعرا ً لطرفة “ كما وتعتبر منطقة صنبرة من المناطق التي شهدت واحدة من أهم المعارك في العصر الاسلامي حيث شهدت موقعة صنبرة
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة
موقعة الصنبرة واحدة من أهم المعارك التى كتب الله فيها النصر للمسلمين على الصليبيين وقد كان للأمير ممدود بن التونتكين فيها دورا بارزا تمثل فى إزكاء روح الجهاد والأخذ بأسباب النصر بتوحيد الصف الإسلامى بعد تشتته وتجسيد معانى الإخلاص والصدق والتضحية وحسن القيادة وحسن ترتيب الأولويات والقدوة الصالحة.
مودود بن التونتكين هو من الشخصيات التي جعلت منهج الجهاد في سبيل الله منهجًا واضحًا لحياتها، وجعلت قتال الصليبيين هدفًا إستراتيجيًّا لا يغيب عن الذهن، ولا يبعد عن الخاطر. فقد كانت قضية قتال الصليبيين هي الشغل الشاغل بصرف النظر عن الظروف، هذا مع إنه كان يرأس مدينة الموصل البعيدة نسبيًّا عن إمارات الصليبيين؛ مما يثبت أنه لم يكن يفعل ذلك لتأمين إمارته فقط، ولكن إرضاءً لله، وحبًّا للجهاد في سبيله.
تحت ضغوط وتحريض وتنظير العلماء والشعراء أوعز السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه لأمير الموصل، مودود بن التونتكين (توفي سنة 507هـ/1113م)، تجهيز الجيوش لمحاربة الصليبيين (السلاطين السلاحقة السُّنيين كانوا الحاكمين الفعليين على العراق منذ سنة 447هـ/1055م عندما دخلوا بغداد بطلب من الخليفة العباسي القائم بأمر الله وطردوا منها ملوك البُوَيْهيين الشيعة. الخلفاء العباسيون صاروا منذ النصف الثاني من القرن الرابع هجري مجرد رمز لوحدة المسلمين الدينية دون سلطة فعلية).
مودود بن التونتكين
وهكذا انطلقت أحد أول حملات المسلمين لمحاربة الصليبيين بقيادة مودود بن التونتكين، حيث حاول تكوين جبهة إسلامية بالتحالف مع إيلغازي بن أرتق أمير ماردين، وسقمان القطبي أمير خلاط وتبريز، وطغتكين أمير دمشق، لكن امتنع أمير حلب، رضوان بن تتش، عن التحالف. امتناع محور حلب جعل جبهة المسلمين تفتقر لقلعة إسلامية في غاية الأهمية تحمي ظهرها وتشكل ركيزة إمداد لها، وتتخذها جيوشهم ملجأ للاحتماء في حال انهزامهم أمام الصليبيين، وبذلك لم تكن تلك الجبهة الإسلامية بالقوة والحصانة التي تمكنها من خوض حروب كبرى مصيرية للقضاء على مماليك الصليبيين.
* إعداد مودود لمواجهة الصليبيين وتحرير البلاد الإسلامية:
استمرَّ مودود -رحمه الله- في الإعداد لحملة جديدة يُهاجم فيها الصليبيين مستغلاًّ أيَّ فرصة مناسبة للخروج، ولم يكن مهتمًّا كثيرًا بالاتجاه إلى إمارة صليبية معينة، بل كان غرضه هو تحرير البلاد الإسلامية كلها، وليس مكانًا معينًا بذاته، فكان أن أرسل إليه طُغْتِكِين أمير دمشق يستغيث به في أواخر سنة (506هـ= مايو 1113م)، حيث توقَّع صدامًا مرتقبًا مع بلدوين الأول ملك بيت المقدس .
* أمير دمشق (طغتكين) يستنجد بممدود ضد بلدوين الأول ملك بيت المقدس:
والواقع أن طُغْتِكِين كان قد دخل في عدَّة مناوشات مع ملك بيت المقدس، وخاصةً حول مدينة صور اللبنانية، وكانت مدينة صور هي المدينة الوحيدة في قطاع لبنان التي لم تسقط في يد الصليبيين، ولم ينسها بلدوين الأول بل وجَّه إليها قوَّة عسكرية لإسقاطها، فاستغاث أهلها بطُغْتِكِين، فتوجَّه إليها بقوَّة من جيشه، واستطاع الدفاع عنها ببسالة، بل إنه قال لأهلها: «أنا ما فعلتُ هذا إلاَّ لله تعالى، لا لرغبة في حصنٍ أو مال، ومتى دهمكم عدوٌّ جئتكم بنفسي ورجالي» .
والواقع أن مستقبل الأحداث صدَّق هذا الكلام؛ حيث لم يطالب طُغْتِكِين أهل صور بدفع مال له نظير الحماية، ولا شكَّ أن هذا التطوُّع منه أغضب بلدوين جدًّا، فكانت النتيجة أنه بدأ يُهاجم الضِّياع والأملاك الواقعة جنوب دمشق، مستخدمًا في ذلك الحامية القوية الموجودة في منطقة الجليل وطبرية بقيادة القائد المتحمِّس الجديد جوسلين دي كورتناي، بل لم يكتفِ بلدوين الأول بذلك، بل أخذ في مهاجمة القوافل الدمشقية المتجهة إلى القاهرة، والتي كانت تسلك طريقًا بعيدًا في الداخل لتهرب من مملكة بيت لار بها من ثروات وبضائع، ويعتدي على التجار فيها ولم يتوقَّف الأمر عند هذا الحدِّ، بل شعر طُغْتِكِين أن هناك من التحرُّكات الصليبية والإعدادات ما يُشير إلى احتمال هجوم كبير على جنوب دمشق أو دمشق ذاتها؛ مما دفعه إلى الاستنجاد بالزعيم الحقيقي الموجود في المنطقة وهو مودود بن التونتكين رحمه الله
* مودود يلبى نداء طغتكين(أمير دمشق) لقتال بلدوين الأول (ملك بيت المقدس):
وجد مودود -رحمه الله- أن هذه فرصة مناسبة مع خطورتها، ووجهُ الخطورة أنه سيقاتل بهذه الصورة في عمق دمشق بعيدًا جدًّا عن إمارة الموصل، حيث ستكون الموقعة غالبًا جنوب دمشق (أكثر من ألف كيلو متر من الموصل)، ثم إنه سيُقاتل أقوى جيوش الصليبيين، وهو جيش مملكة بيت المقدس، إضافةً إلى احتمالية أن يُغلِق عليه الصليبيون في الرها وأنطاكية طريقَ العودة إلى الموصل؛ مما قد يُوقعه في خطر شديد، ومع ذلك فقد قَبِل مودود أن يُلَبِّيَ نداء طُغْتِكِين دون تردُّد، وخرج بالفعل على رأس جيشه صوب دمشق في أواخر سنة (506هـ= مايو 1113م) ، أي في الشهر نفسه الذي وصلت فيه الاستغاثة من طُغْتِكِين.
* محاربة بلدوين دى بورج للأرمن فى الرها:
وكان من الأمور المهمَّة التي تشغل ذهن مودود، وهو في طريقه إلى دمشق، أنه سيمرُّ جنوب إمارة الرها أو قد يخترق بعض أملاكها، وهذا -لا شكَّ- قد يُعَرِّض جيشه لهجوم صليبي، خاصةً أن العلاقات بينه وبين إمارة الرها في غاية التوتُّر لتكرار هجومه عليها وحصاره لها، إلا أنَّ الله عز وجل مهَّد له الطريق ببعض الأحداث التي مهَّدت له الطريق، وشغلت الصليبيين في إمارة الرها بأنفسهم؛ ذلك أنه قد سَرَتْ إشاعة داخل الإمارة في أواخر سنة (506هـ= مايو 1113م)، أي في الشهر نفسه الذي خرج فيه مودود من الموصل، أنَّ الأرمن يُراسِلون من جديدٍ المسلمين للخلاص من الصليبيين، وسواء كانت هذه الإشاعة صحيحة أم باطلة؛ فإنَّ ردَّ فعل بلدوين دي بورج كان عنيفًا للغاية ؛ إذ أمر جنوده أن يقوموا بحملة تطهير عرقي بشعة داخل المدينة لكل الأرمن بلا استثناء؛ ومن ثَمَّ انطلق الجنود الصليبيون على تجمعات الأرمن العُزَّل يقتلون ويذبحون، ثم فتحوا أبواب المدينة ليهرب منهم مَنْ يُريد إلى خارج المدينة التي عاشوا فيها عمرهم، وفيها كل ممتلكاتهم وأموالهم؛ فمنهم مَنْ خرج لا يلوي على شيء، ومنهم مَنْ بَقِيَ في داره، فكان مَنْ يبقى يدخل عليه الجنود الصليبيون فينهبون داره، ثم يحرقونها بسكانها من الأرمن! وكان من أبشع أيام هذه المجزرة -كما يروي المؤرخ الأرمني متَّى الرهاوي- يوم 13 من مايو 1113م، حيث انتشرت المذابح بالجملة، وكان أسود يوم في تاريخ الأرمن مطلقًا، حتى كان الأب -كما يصور متَّى الرهاوي- لا يعرف أبناءه، ولا الأبناء يعرفون آباءهم، بل كان كل واحد ليس له من همٍّ إلا الهرب، وانتهى الأمر بقتل أو طرد كل الأرمن من المدينة بلا استثناء ! ولا شك أن هذا الموقف جعل الأوضاع الأمنية والاقتصادية في إمارة الرها في غاية الاضطراب؛ مما جعل بلدوين دي بورج لا يُفَكِّر مطلقًا في مهاجمة جيش مودود، ولا التجرُّؤ على قطع طريق عودته، فكان هذا تدبير ربِّ.
* قميرك (أميرسنجار) وإياز بن إيلغارى (أميرماردين) وطغتكين ومودودوحصارهم لمدينة طبرية ضد الصليبين:
ومع كل ما حدث من خيانات سابقة من الأمراء المسلمين الذين صحبوا مودودًا في معاركه مع الصليبيين، فإنَّ مودودًا دعا إلى التجمُّع من جديد لحرب الصليبيين؛ مرسِّخًا بذلك مبدأ الوَحْدَة والتجمُّع حول راية واحدة، وقد استجاب له في هذا النداء قميرك أمير إمارة سِنْجَار، وهي من إمارات ديار بكر في شمال العراق، وكذلك إياز بن إيلغازي أمير مَارِدِين، إضافةً -طبعًا- إلى طُغْتِكِين أمير دمشق الذي وجَّه الدعوة إلى مودود .تجمَّعت الجيوش السلجوقية عند مدينة سَلَمْيَة، وهي إلى الجنوب الشرقي من حماة، ثم اتجهت مباشرةً إلى مدينة طبرية الحصينة، وهي تطلُّ على بحيرة طبرية المعروفة في فلسطين، وهناك التقى جيش مودود مع جيش طُغْتِكِين، وبدءا حصارًا سريعًا لمدينة طبرية؛ إلاَّ أنها استعصت عليهم، فتركها الجيش الإسلامي وأخذ في غزو المناطق المحيطة مستوليًا على قدر كبير من الغنائم والممتلكات الصليبية؛ حتى وصلوا إلى جبل الطور .
* روجر الأنطاكى وبونز بن برترام (أمير طرابلس )وتحرك جيشيهما نحو طبرية:
ووصلت الأخبار سريعًا إلى بلدوين الأول ملك بيت المقدس، فأرسل رسالة استغاثة عاجلة إلى كل الإمارات الصليبية، فردَّ عليه بالإيجاب أمير أنطاكية الجديد روجر الأنطاكي، وكذلك أمير طَرَابُلُس الجديد بونز بن برترام، وتحرَّكا بجيوشهما فعلاً في اتجاه طبرية، أمَّا بلدوين دي بورج فقد اعتذر للظروف التي تمرُّ بها إمارته كما أوضحنا.
* خروج بلدوين الأول تجاه طبرية:
ومع كون بلدوين الأول قد أرسل طلبًا للمعونة؛ فإنه لم يستطع أن ينتظر الجيوش الصليبية القادمة من الشمال؛ لأنه خشي أن تتوغَّل الجيوش الإسلامية في مملكته؛ مما قد يُهَدِّد مدينة القدس ذاتها، خاصةً أن مدينة عَسْقَلان لا تزال في يد العبيديين، وقد تُحصر القدس بين الجيوش السلجوقية والجيوش العبيدية؛ ولذلك خرج بلدوين الأول بسرعة شمالاً في اتجاه طبرية .
* مودود يختار الاقحوانه وينصب كمينا لبلدوين الأول عند جسر الصنبرة:
عَلِم مودود بتحرُّك الجيش الصليبي من الجنوب فأسرع باختيار مكان مناسب للقتال، واختار شبه الجزيرة المعروفة بالأقحوانة ، والموجودة بين نهر الأردن ونهر اليرموك جنوب بحيرة طبرية، ولم يكتفِ بذلك، بل نصب كمينًا خطيرًا لبلدوين الأول عند جسر الصِّنَّبْرَة على نهر الأردن جنوب غرب بحيرة طبرية.
وفي يوم (13 من المحرم 507هـ= 20 من يونيو 1113م) شاء الله عز وجل أن يدخل بلدوين الأول في الكمين الذي نصبه مودود له عند جسر الصِّنَّبْرَة ، بل إنه في رعونة بالغة -لا تُفَسَّر إلاَّ بأن الله عز وجل أعمى بصره- لم يترك حامية صليبية تحمي ظهره، وكأنه نسي كل القواعد العسكرية التي تعلمها طوال حياته!
* عماد الدين زنكى ومهارته العسكريه فى موقعة الصنبرة
دارت موقعة شرسة عند جسر الصِّنَّبْرَة -وهي ما عُرفت في التاريخ بموقعة الصِّنَّبْرَة وكان للمفاجأة عاملٌ كبير في تحويل دَفَّة المعركة لصالح المسلمين.
وما هي إلا ساعات حتى سُحِق الجيش الصليبي، وقُتل ما يزيد على ألفي فارس، وهرب بلدوين الأول بمشقة بالغة بعد أن دُمِّرت فرقة من أهمِّ فرق جيشه! وغنم المسلمون غنائم هائلة في هذه المعركة من الخيول والسلاح والممتلكات ، وكان يومًا ردَّ فيه مودود -رحمه الله- الاعتبارَ من هزيمة السنة الماضية عند حصون الرها، ومما هو جدير بالذكر أن هذه المعركة شهدت بزوغًا رائعًا لنجم إسلامي جديد كان في جيش مودود، وهو القائد العسكري الفذُّ عماد الدين زنكي، الذي أبلى بلاءً حسنًا في هذه الموقعة؛ حتى وصف ذلك ابن الأثير بقوله: «وقد وصل في المهارة العسكرية إلى الغاية!»
* مودود وذكائه فى سحب الجيش قبل حصار طبرية
ثم ما لبثت الأخبار أن أتت بقرب وصول جيش روجر وبونز، مع احتمال وصول إمدادات جديدة من بيت المقدس والمدن الساحلية؛ مما جعل مودود يُفَكِّر في سحب جيوشه بسرعة قبل أن تُحصر في طبرية.
* الجيوش الإسلامية ومحاصرتها للصليبيين وتدمير الحصون الصليبيه بين عكا والقدس:
خرج مودود فعلاً من منطقة المعركة ليتجنَّب الوقوع في كمائن الصليبيين، ثم ما لبثت الجيوش الصليبية أن تجمَّعت من جديد، لكنها لاحظت قوَّة الجيش الإسلامي وارتفاع معنوياته؛ فقرَّرت عدم الدخول في مواجهة فاصلة؛ ولذلك احتمت بأحد المرتفعات غربي بحيرة طبرية، وتوجَّه إليهم المسلمون وحاصروهم، لكنَّ الصليبيين رفضوا النزول من أماكنهم، واكتفوا برمي المسلمين بالسهام والرماح من بُعد .في هذه الأثناء كانت الجيوش الإسلامية -إضافةً إلى حصار الصليبيين في أماكنهم- تجوب المنطقة لتدمير الحصون الصليبية فيما بين عكا والقدس، كما حصلوا على كثيرٍ من الممتلكات الصليبية .
* العبيديون وتخليهم عن مودود ضد الصليبين فى موقعة الصنبرة:
مع إنه في هذه الأثناء -أيضًا- تحرَّك جيش عبيديٌّ من عَسْقَلان صوب بيت المقدس وكان جيشًا صغيرًا لم يُفَكِّر إلا في إحداث بعض الهجمات الاستنزافية في المنطقة، ولم تكن له القدرة على قتال الحامية الصليبية القوية في بيت المقدس، ومع ذلك فقد أرعب هذا الجيش بلدوين الأول؛ الذي خشي من تواصل هذا الجيش مع الجيش السلجوقي، ومن ثَمَّ يتأزم الموقف أكثر، إلا أنه -للأسف- لم تكن نية التعاون مع المسلمين السُّنَّة واردة مطلقًا عند الجيش العبيديّ؛ لذلك ما لبث أن عاد إلى عَسْقَلان محمَّلاً ببعض الغنائم دون التواصل مطلقًا مع جيش مودود !
المسلمون يحاصرون الجيش الصليبى مدة ستة وعشرون يوما فى موقعة الصنبرة:
استمرَّ حصار المسلمين لجيش الصليبيين مدَّة ستة وعشرين يومًا كاملة دون أن يجرُؤَ الصليبيون على الخروج لمواجهة شاملة، إلاَّ أنه في (507هـ= أغسطس 1113م) وصل أسطول أوربِّي يحمل ستة عشر ألف حاج صليبي مسلح إلى ميناء عكا القريب، ولا شكَّ أن هذا العدد الضخم قَلَب الموازين لصالح الصليبيين.شعر مودود -رحمه الله- بالخطر نتيجة تجمُّع هذه الأعداد الكبيرة من الصليبيين؛ ولذلك فكَّر في الانسحاب من طريقه مكتفيًا بالنصر الذي حقَّقه، ومحافظًا على جيشه الذي لم يفقد في هذه المعارك إلا القليل جدًّا من رجاله، وبالفعل تحرَّكت الجيوش الإسلامية صوب الشمال في اتجاه دمشق، ولم تُفَكِّر الجيوش الصليبية في متابعتهم لإرهاقها الشديد، وهزيمتها النفسية نتيجة الخسائر الكبيرة، فضلاً عن خوفهم من هجوم عبيديٍّ أكبر على مدينة القدس.وهكذا رضي الطرفان بهذه النتيجة، واتجهت الجيوش الإسلامية إلى دمشق حيث دخلتها في (ربيع الآخر 507هـ= سبتمبر 1113م) ولا بُدَّ لنا من وقفة سريعة مع موقعة الصِّنَّبْرَة التي كان لها الكثير من الآثار الجليلة في قصتنا.
استشهاد الأتابك مودود بن التونتكين رحمه الله :
دخل يرحمه الله مدينة دمشق في ربيع الأول 507هـ / سبتمبر 1113م، عازمًا أن يبقى فيها فصل الشتاء؛ ليستغل هذه الفترة في تجميع جيوش جديدة والاستعداد لمواجهة جديدة مع الصليبيين.
هذا ما كان يريده، لكنَّ أعداء الأمة ما كانوا يريدون ذلك، بل أضمروا صورة مقيتة من الغدر قلَّ أن نجدها في صفحات التاريخ!! وما يحزن القلب حقًّا أن أعداء الأمة الذين نعنيهم في هذا الموقف ليسوا من الصليبيين، لكنهم كانوا من أبناء الإسلام!! أو من الذين يدعون ظاهريًّا أنهم من أبناء الإسلام!!
يقول ابن الأثير رحمه الله: " وأذن الأمير مودود للعساكر في العود والاستراحة، ثم الاجتماع في الربيع لمعاودة الغزاة، وبقي في خواصه، ودخل دمشق في الحادي والعشرين من ربيع الأول ليقيم عند طغتكين إلى الربيع، فدخل الجامع يوم الجمعة في ربيع الأول في 507هـ / سبتمبر 1113م، ليصلي فيه وطغتكين، فلما فرغوا من الصلاة، وخرج إلى صحن الجامع، ويده في يد طغتكين، وثب عليه باطني فضربه فجرحه أربع جراحات وقُتل الباطني، وأخذ رأسه، فلم يعرفه أحد، فأحرق
وكان صائما، فحمل إلى دار طغتكين، واجتهد به ليفطر، فلم يفعل، وقال: "لا لقيت الله إلا صائمًا"، فمات من يومه رحمه الله ..، وكان خيِّرًا، عادلًا، كثير الخير".
ومن النوادر المبكيات أن ملك الفرنج في بيت المقدس بلدوين الأول كتب كتاباً إلى طغتكين جاء فيه: "أن أمة قتلت عميدها، يوم عيدها، في بيت معبودها، لحقيق على الله أن يبيدها"
وبذلك ختم مودود رحمه الله حياة حافلة بالجهاد والبذل والعطاء، ونحسبه شهيدًا، ولا نزكيه على الله، والله حسيبه
انتصار موقعة الصنبرة يُشكل وضع حجر الأساس للتحولات التي ستشهدها الساحة الإسلامية وإماراتها ودولتها وللانتصارات التي سيحققها القادة اللاحقون، ومن بينها انتصار المسلمين تحت قيادة صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين. ولذلك بالإمكان القول على لسان محمد مؤنس عوض:
[“اليوم الصنبرة وغداً حطين”، وهذا ما أثبته السياق العام لتاريخ تلك المنطقة في القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي] (أ.هـ).
فموقعة الصِّنَّبْرَة كانت أول انتصار على مؤسس مملكة القدس، أهم ممالك النصارى، لذا رفعت معنويات المسلمين وأحيت في أنفسهم الأمل والثقة بالقدرة على تحرير القدس وبلاد الشام من الغزاة الصليبيين. كما أن موقعة الصِّنَّبْرَة شارك فيها رجل تَعلَّم الكثير من مودود بن التونتكين وبرزت فيها قدراته القيادية والعسكرية، ليحمل لاحقا شعلة الجهاد عن مودود بن التونتكين ويكمل مشروع طرد الجيوش الصليبية من بلاد الإسلام، وهذا القائد الصاعد هو عماد الدين زنكي، والد نورد الدين محمود (التركي) الأب الروحي لصلاح الدين الأيوبي (الكردي) والممهد لتحرير بيت المقدس.
الدروس المستفادة من موقعة الصنبرة:
أولاً:أعادت هذه الموقعة الثقة للجيش الإسلامي وللمسلمين بصفة عامَّة، خاصةً بعد النتائج السلبية للحملات السابقة، وهي بذلك تُعتبر من معارك ردِّ الاعتبار؛ لذا فقد رَفَعت الروحَ المعنوية جدًّا للمسلمين، بينما أحبطت الصليبيين، خاصةً أنهم لم يجرءوا على المواجهة على الرغم من اجتماع جيوشهم.
ثانيا:خسر الصليبيون في هذه المعركة أكثر من ألفي فارس، إضافةً إلى الغنائم والأسلاب، فضلاً عن خسارة عددٍ كبير من القلاع والحصون التي دُمِّرت في منطقة طبرية، بل وجنوبًا حتى مدينة القدس.
ثالثًا:ترسَّخ لدى المسلمين بعد هذه الموقعة مبدأ الهجوم على القوَّات الصليبية بدلاً من الدفاع، وهذا -لا شكَّ- مبدأ عسكريٌّ إستراتيجيٌّ مهمٌّ، ويحتاج إلى روح قتالية عالية، وثقة بالنفس، وهو ما تحقَّق في هذه الموقعة.
رابعا:وضحت أهمية الوَحْدَة في الجيش الإسلامي، حيث تمَّت الموقعة باتحاد الموصل مع دمشق في الأساس، إضافةً إلى المساعدات الرمزية التي قدَّمها قميرك أمير سِنْجَار، وإياز بن إيلغازي أمير مَارِدِين.
خامسًا:علَّ من أهمَّ ثمرات موقعة الصِّنَّبْرَة هو علو نجم البطل الإسلامي العظيم عماد الدين زنكي بن آق سنقر الحاجب، وقد أظهر في هذه المعركة من فنون القتال وبسالة الهجوم ما لفت إليه أنظار الجميع، وطارت أخباره في الآفاق؛ مما سيُؤَثِّر مستقبلاً في مسيرة الجهاد بصفة عامَّة.....
المصادر
1- الحازمي : الأماكن
2-ياقوت : معجم البلدان
3- ابن الأثير: الكامل في التاريخ
4- ابن الجوزي: مرآة الزمان حوادث سنة (506-508هـ).
5-ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق .
6- ابن الأثير: الكامل في التاريخ
7- ابن العبري: تاريخ مختصر الدول .
8- ابن العديم: زبدة الحلب
9- صالح بن يحيى: تاريخ بيروت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق