السبت، 20 يونيو 2020

قصيدة بعنوان/(بناء دولة الاسلام )/بقلم الكاتب الاديب الراقي /الشاعر المبدع/ د. صالح العطوان الحيالي

جنود الهجرة والطريق الى بناء دولة الاسلام
ـــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي -العراق-7-حزيران-2020
التاريخ ذاكرة الأمم والشعوب، والأمة التي لا تعرف تاريخها ولا تدرسه كاﻹنسان فاقد الذاكرة الذي لا يعرف لنفسه ماضيا ولا كنها، من هو وماذا يصنع وأين وكيف ولماذا يعيش؟.. فاقد الذاكرة إنسان تائه على قارعة الطريق.. وكذلك اﻷمم والشعوب.. من أجل هذا كانت دراسة التاريخ هي انعاش ذاكرة الأمة لمعرفة هويتها ورسالتها وهدفها في الحياة.. وكانت المناسبات التاريخية المختلفة فرصة ذهبية لاستعادة الذاكرة التي تصنع الحاضر والمستقبل في ضوء معرفة يقينية بالذات والرسالة وغاية الوجود.
تعتبر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة وتحديدا في يوم السادس والعشرين من شهر صفر الموافق التاسع من شهر سبتمبر عام 622 ميلادية، هي الحدث الأهم والأبرز في تاريخ الدولة الاسلامية، هذا التاريخ الذي يذخر بالعديد من الأحداث العظيمة ذات الأثر الكبير في حياة الأمة، إلا ان حدث الهجرة يأتي في مقدمة هذه الأحداث تأثيرا لاعتبارات كثيرة اهمها، انه الاسبق في الحدوث الزمني، والأهم من ذلك انه كان اشارة البدء لبناء الدولة الاسلامية بكل مقوماتها، وبداية الانطلاق لقوة جديدة اصبحت بعد اعوام قليلة صاحبة الريادة والقيادة بعد ان تغلبت على دولتي الفرس والروم، لأنها جاءت لتحكم بإرادة الله تعالى، وعلى أسس الحق والعدل والمساواة، ومحاربة افكار الجاهلية والعصبية، والتمييز بين البشر.
لقد كانت الهجرة نقطة الانطلاق والتأسيس للدولة الإسلامية، وهي عملية الانتقال من مرحلة الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، وترك عبادة الأوثان وتطهير النفوس من أدران الشرك، إلى مرحلة بناء وتأسيس الدولة والأمة الإسلامية، وإرساء قواعدها لتتمكن من الانطلاق إلى العالم أجمع لنشر الدعوة الإسلامية.
لم تكن الهجرة إلى المدينة مجرد الفرار بدين الله تعالى من ظلم قريش وقسوتها في معاملة المسلمين - كما يفهم بعض قصيري النظر - إنما كانت الاتجاه بالدين إلى بيئة صالحة لأن ينمو فيها وتكون قاعدة انطلاق لمشاعل النور والهدي إلى بقية أصقاع الأرض.
ويعد حادث الهجرة فيصلاً بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية، هما المرحلة المكية والمرحلة المدنية، ولقد كان لهذا الحادث آثار جليلة على المسلمين، ليس فقط في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن آثاره الخيرة قد امتدت لتشمل حياة المسلمين في كل عصر ومصر، كما أن آثاره شملت الإنسانية أيضاً، لأن الحضارة الإسلامية التي قامت على أساس الحق والعدل والحرية والمساواة هي حضارة إنسانية، قدمت، ومازالت تقدم للبشرية أسمى القواعد الروحية والتشريعية الشاملة، التي تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع، والتي تصلح لتنظيم حياة الإنسان كإنسان بغض النظر عن مكانه أو زمانه أو معتقداته
هجرةُ الرسولِ -عليه الصّلاة والسلام- هي التاريخُ الفاصلُ الذي بدأتْ منه انطلاقةُ الدولة الإسلاميّة، حيث تُمثّلُ تاريخًا جديدًا في العهدِ الإسلاميّ بعد ثلاثة عشر عامًا من الدعوة في مكّة، كما أنّها تمثّلُ تضحية كبيرة من المسلمين المهاجرين الذين تركوا وطنهم وأهلهم ومالهم وذكرياتهم في مكة، وهاجروا بدينهم إلى يثربَ، دون أن يفكّروا لحظة واحدة في أن يتركوا دينهم، خصوصًا بعد الأذى الكبير الذي لاقوهُ من قريش، فلاقوا في يثرب الكثير من الحفاوة والاستقبال الرائع الذي قام به المسلمون الأنصار.
لقد كانت الهجرة النبوية امتثالٌ لأمر الله تعالى الذي أذن لنبيّه أن يهاجر، وهي بهذا تمثل اختبارًا لنية المؤمنين الذين هاجروا بأمرٍ من رسول الله، فلكل امرئ ما نوى من هجرته، وفي هذا يقول الله تعالى في محكم التنزيل: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" البقرة-218، وفي الوقت نفسه فقد أعدّ الله تعالى الأجر الكبير للأنصار الذين استقبلوا المهاجرين بالحفاوة، وأثنى عليهم في القرآن الكريم بقوله تعالى: "وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" التوبة -100.
الهجرة النبوية هي حدث تاريخي وذكرى ذات مكانة عند المسلمين، ويقصد بها هجرة النبي محمد وأصحابه من مكة إلى يثرب والتي سُميت بعد ذلك بالمدينة المنورة؛ بسبب ما كانوا يلاقونه من أذى من زعماء قريش، خاصة بعد وفاة أبي طالب، وكانت في عام 1هـ، الموافق لـ 622م، وتم اتخاذ الهجرة النبوية بداية للتقويم الهجري، بأمر من الخليفة عمر بن الخطاب بعد استشارته بقية الصحابة في زمن خلافته، واستمرت هجرة من يدخل في الإسلام إلى المدينة المنورة، حيث كانت الهجرة إلى المدينة واجبة على المسلمين، ونزلت الكثير من الآيات تحث المسلمين على الهجرة، حتى فتح مكة عام 8 هـ
إنَّ الهجْرة من مكَّة إلى المدينة تعدُّ من الأحداث الفاصلة في تاريخ الدَّعوة الإسلاميَّة، فهِي نهايةٌ لعهْد تعرَّض فيه المسلِمون الأوَّلون لألْوان الاضطِهاد والأذى، فما ضعفوا وما استكانوا، وبدايةٌ لعهْد جديد نصَرَ الله جلَّ جلالُه فيه الإسلامَ على أعدائِه نصرًا عزيزًا مؤزَّرًا، حيث خاضت القلَّة المؤمنة حروبًا عديدة ضدَّ الكثْرة المشْرِكة، فما أجْدت كثْرة المشْركين وما حالت قلَّة المؤمنين بيْنهم وبين الظُّهور على أعدائِهم، لتُصْبِح كلِمة الله تَبارك وتعالى هي العُلْيا، وكلمة الَّذين كفروا السُّفْلى.
اجتمعت قريش يوماً لتبحث بأمر النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين معه، فانتهى بهم الأمر إلى قتله، واختاروا من كل قبيلة شاباً قويّاً ليتفرّق دمه بين القبائل وكي يصعب الثأر له، فنزل جبريل -عليه السلام- على سيد المرسلين وأمره بعدم المبيت في بيته هذه الليلة، فذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت أبي بكرٍ الصديق، وأخبره بأنّ الله قد أذن له بالهجرة، فقال له أبو بكرٍ: الصحبة يا رسول الله، فجهّز أبو بكر راحلتين وأخذ كلّ ما يملك من المال، وأمر رسول الله عليّاً بالمبيت في فراشه تلك الليلة ليتوهّم المشركون أنّ رسول الله نائمٌ في فراشه، وعند حلول الظّلام تجمّع الحاقدون عند بيت رسول الله ومعهم سيوفهم الحادة، عندها خرج رسول الله من بيته وحثا التراب على رؤوس أعدائه واخترقهم دون أن يشعروا به ومضى في رعاية الله وحفظه
اختيار الرَّسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكْرٍ الصدّيق رضي الله عنه:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ اختار المصطفى صلى الله عليه وسلم لمُرافقته في رحلتِه الكبرى أبا بكْرٍ الصدّيق رضي الله عنه دون سائِر أصحابِه فكان اختيارًا موفَّقًا؛ لأنَّ أبا بكر رضي الله عنه أصْلح الصَّحابة للقيام بهذه الاختِيار النَّبوي الكريم.
أبْلغ الرَّسول صلى الله عليه وسلم أمْر الهجرة إلى أبي بكر رضي الله عنه تلميحًا لا تصريحًا، فلمَّا أذن لأصحابه أن يُهاجروا من مكَّة إلى المدينة طلب أبو بكر رضي الله عنه منه أن يَأْذن له في الهجرة، فأمْهله صلى الله عليه وسلم قائِلًا: «لا تعجلْ يا أبا بكر؛ لعلَّ الله يجعل لك صاحبًا».
وفهِم الصدِّيق رضي الله عنه من هذه الجُملة أنَّه قد يصاحب الرَّسول صلى الله عليه وسلم في هجرته، فاستعدَّ وجهَّز راحلتَين تنقلانِه هو والرَّسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلمَّا أذن الله تعالى للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالهجرة وأخبر أبا بكر رضي الله عنه بذلك، فاضت دموعُ الصدِّيق من فرط السُّرور، وأخذ يقول: الصحبةَ يا رسول الله، الصحبةَ يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: «الصُّحبة يا أبا بكر»، فبكى أبو بكر من شدَّة الفرح، وخرجا سرًّا في ظلام الليل إلى غار ثور.
ولقد جدَّ الكفَّار في البحث عن محمَّد صلى الله عليه وسلم وصاحِبه رضي الله عنه إلى أن وقفوا على باب الغار، فقلق أبو بكر خوفًا على حياة الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم وقال له: لو أنَّ أحدَهم نظر إلى قدميْه لأبصرنا، فقال النَّبيُّ العظيم محمَّد صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكْرٍ، لا تحزَنْ إنَّ الله معنا يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما».
فهدأتْ نفس أبي بكر رضي الله عنه وعادتْ إلى قلبه الطُّمَأنينة، وقال الله جلَّ ثناؤه: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كانت المؤامرة الَّتي دبَّرها الكفَّار أن تقوم مَجموعة من قريْش تتألَّف من كلِّ عشيرة فيها، بِحيث تنتدب عنها شابًّا فتيًّا، ويعمد هؤلاء إلى محمَّد صلى الله عليه وسلم فيضرِبونه ضربة رجُل واحد، وبذلك يتوزَّع دمه في جميع العشائر، فلا يقدِر بنو عبد مناف على حرْبِهم، فلمَّا كانت اللَّيلة الَّتي عزموا فيها على تنفيذ المؤامرة تربَّصوا قرب داره، منتظرين الفُرْصة الملائمة لاغتياله.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينام على فراشه قائلا: «نم على فراشي وتسجَّ ببردي هذه الحضرمي الأخضر، فنم فيه، فإنَّه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم».
ودعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم اللهَ عزَّ وجلَّ أن يعمي أبصارهم، فخرج صلى الله عليه وسلم وقد غشيهم النوم، فوضع على رءوسِهم التراب؛ {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9].
قال المرحوم عباس العقَّاد في تحليل شخصية الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (آداب الفروسية هي مفتاح هذه الشخصيَّة النبيلة، كانت القوَّة طبعًا في علي فطر عليه، وأدبًا من آداب الأسرة الهاشمية نشأ فيه، وعادة من عادات الفروسيَّة العمليَّة التي يتعوَّدها كل فارس شجاع).
عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما:
ـــــــــــــــــــــــــ وكان دوْرُه هو استطلاعَ أخبار قريْش بمكَّة، والوقوف على ردِّ الفِعْل الَّذي أحدثه خروجُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم سرًّا، وما عسى أن يدبِّرَه زعماؤها لوقْف مسيرته؛ وبذلك يكون المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه على بيِّنة ممَّا يُحاك خلْفَه من مؤامرات، فيستطيع أن يتَّقيها، ويبلغ مأمنه في طَيْبة (المدينة).
أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما:
ــــــــــــــ وكان دوْرها رضي الله عنها في الهجرة أن تأتِي النبيَّ صلى الله عليه وسلم وصاحبَه رضي الله عنه بالماء والزَّاد وهُما في الغار، وظلَّت رضي الله عنْها على ذلك ثلاث ليال مُتعاقبة، تقتحِم الصَّحراء الموحِشة في رهبة الظَّلام، وهي صغيرة، ولا تبالي العيون والأرصاد التي تبعثها قريْش في الطَّريق من مكَّة إلى المدينة؛ لتظفر بمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم.
ولمَّا همَّ الصَّاحبان بالرَّحيل إلى المدينة جاءتْهما أسماء رضِي الله عنها بِما يَحتاجان إليه في رحلتهما من زاد وماء، وهمَّت بتعليقه في رحل البعير، فلم تجِد رباطًا، فحلَّت نطاقها وشقَّته نصفين، ربطت بأحَدِهما الزَّاد، وانتطقت بالآخَر، فقال لها المصْطفى صلى الله عليه وسلم: «أنتِ ونِطاقاك في الجنَّة»، وسمِّيت بعد ذلك: بـ (ذات النطاقين).
عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما:
ــــــــــــــــــــــــــ ولقد شاركت أسماءَ دوْرَها الخالد في الهجرة أختُها عائشة رضي الله عنها كما ترْوي معْظم كتب السيرة، وكانت لا تزال طِفلة دون العاشرة، فخاضت بذلك تَجربة أكبرَ من سنِّها الصَّغيرة، ممَّا أكْسبها نضوجًا فكريًّا ونفسيًّا مبكِّرًا، أتاح لها القيام بأدْوار كُبرى في مستقبل حياتها، ولقد كان اقتِحام ابنتَي الصِّديق رضي الله عنْهما ظلمات البيداء حاملتَين لأبيهِما وصاحبِه رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتَهما من الماء والطَّعام، غير مباليتين بما قد يُصيبهما من أذى- بلاءً أي بلاء، وجهادًا أجلَّ جهاد.
عامر بن فهيرة رضي الله عنه:
ـــــــــــــــــــــــــــ وكانت مهمَّته في الهجرة مهمَّة مزْدوجة، أن يرعى غنَمَ أبي بكر رضي الله عنه نهارًا، فإذا أمسى قصد إلى الغار، واحتلب للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه وأن يتبع بالغنم مسار عبدالله بن أبي بكر بعد عوْدته من غار ثور إلى مكَّة، فيعفِّي على ما تركتْه أقدامه من آثار في رمال الصَّحراء، قوَّة إيمان وصدق عقيدة.
دليل الهجرة عبد الله بن أريقط:
ــــــــــــــــــــــــ إنَّ اختيار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والصدِّيق رضي الله عنه لعبدالله بن أريقط الديْلمي (وهو رجُل من كفَّار قريش)؛ ليكون دليلَهما في الطَّريق إلى طَيبة (المدينة)- ليدلُّ على حسن الاختِيار؛ لأنَّ ابنَ أُريقط قد سلك بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وصاحبِه رضي الله عنه طريقَ الساحل، الأمر الَّذي لم يرِدْ على خاطر قريش؛ إذْ لم يكن طريقًا مألوفًا في ذلك الحين.
وثمَّة شرطان أساسيَّان للاستعانة بخبيرٍ من غير الملَّة:
أوَّلُهما: أن يكون موثوقًا به.
والثَّاني: أن يكون اختيارُه حتميًّا؛ بمعنى: ألا يوجد من أهل الملَّة مثيل له، وقد توافر هذان الشَّرطان في عبدالله بن أريقط؛ إذ يقول كتَّاب السير: إنَّه كان كافرًا لكنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وصاحبَه رضي الله عنه وثِقا به، وكان دليلًا بالطُّرُق، وجاء في الحديث الصحيح: إنَّه كان هاديًا خرّيتًا؛ أي: حاذقًا، يعرف مضايق الطُّرق؛ لذلك دفَع الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم وصاحبُه رضي الله عنه راحلتيْهما إليْه، واستأْجراه ليدلَّهما إلى طيبة (المدينة).
مرَّ النبيُ صلي الله عليه وسلم وأبو بكر رضى الله عنه ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة ودليلهما الليثي عبد الله بن أريقط على خيمتي أم معبد الخزاعية وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء الخيمة ثم تسقي وتطعم فسألوها لحمًا وتمرًا ليشتروا منها فلم يصيبوا عندها شيئًا من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين فنظر رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة فقال: «ما هذه الشاة يا أم معبد؟» قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم قال: «هل بها من لبن؟» قالت: هي أجهد من ذلك، قال: «أتأذنين لي أن أحلبها؟» قالت: بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها، فدعا بها رسول الله صلي الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها وسمى الله تعالى ودعا لها في شاتها فتفاجت عليه ودرت فاجترت فدعا بإناء يربض الرهط فحلب فيه ثجًا حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم حتى أراضوا ثم حلب فيه الثانية على هدة حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها ثم بايعها وارتحلوا عنها، فقل ما لبثت حتى جاءها زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا عجافًا يتساوكن هزالاً مخهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن أعجبه، قال: من أين لك هذا يا أم معبد والشاء عازب حائل ولا حلوب في البيت؟ قالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا قال: صفيه لي يا أم معبد، قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق لم تعبه ثجلة ولم تزريه صعلة وسيم قسيم، في عينيه دعج وفي أشفاره وطف وفي صوته صهل وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أزج أقرن إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأباه من بعيد وأحسنه وأجمله من قريب، حلو المنطق فصلاً لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة لا تشنأه من طول ولا تقتحمه عين من قصر غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرًا وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفون به إن قال سمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود لا عابس ولا مفند، قال أبو معبد: هذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر، ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً، وأصبح صوت بمكة عاليًا يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه***رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلاها بالهدى واهتدت به***فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيا لقصي ما زوى الله عنكم***به من فعال لا تجازى وسؤدد
ليهن أبا بكر سعادة جده***بصحبته من يسعد الله يسعد
وليهن بني كعب مقام فتاتهم***ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها***فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
ودعاها بشاة حائل فتحلبت***عليه صريًا ضرة الشاة مزبد
فغادره رهنًا لديها لحالب***يرددها في مصدر بعد مورد
المصادر
1- ابن هشام السيرة النبوية
2- د. عماد الدين خليل: دراسة في السيرة
3- موقع قصة الاسلام
4- حسن محمد حسين حمدان: الهجرة إلى المدينة هي بناء دولة وبداية التفوق الاستراتيجي
5- البداية والنهاية
6- الطبقات الكبرى لابن سعد
7- صحيح مسلم
8- صحيح البخاري
9- السيرة الحلبية
10- الكامل في التاريخ
11- التاريخ الهجري احداث ومناسبات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق