الاثنين، 29 مايو 2017

الفعل الحضاري للهجرات /بقلم الكاتب الاديب الراقي/الشاعر د. صالح العطوان الحيالي 27.5.2017

الفعل الحضاري للهجرات الإسلاميَّة في إفريقيا
ــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي 27.5.2017
لقد ارتبط اسم إفريقيا منذ فجر الإسلام بالهجرة؛ إذ هي أرض الهجرة الأولى، ومقصد المهاجرين الأوَّلين، ومأوى الطَّائفة المؤمنة المضطهَدة بمكَّة، ومنذئذٍ لم تفتأ إفريقيا تحتضن المهاجرين بأصنافهم المختلفة، وتستقطب بذلك الخبرات والحضارات المتعدِّدة، ولا شـكَّ أن الهجرات الإسلاميَّة كانت أهمَّ الرَّوافد التي أمدَّت إفريقيا بالمفعول الحضاري، وألهمت الأفارقة الوسائل والخبرات المتجدِّدة ليتبوَّؤوا مقعدهم ومكانتهم الحضارية في محفل الحضارة الإنسانيَّة.
كانت فاتحة تلك الهجرات المباركة إلى أرض إفريقيا بالحبشة هجرة ابنة صاحب النُّبوة - صلى الله عليه وسلم - رقيَّة - رضي الله عنها - وصـهره ذي النُّـورين الخليفـة عثمـان - رضي الله عنه - ودامت أربعة أشهرٍ (من رجب إلى شوال في السَّنة الخامسة من البعثة النَّبويَّة)، وبمعيَّتهما ثلاثــة عشر مــن المســـلمين ؛ منهــم: عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعثمان بن مظعون، ومن النِّساء: سهلة بنت سهل امرأة أبي حذيفة، وأم سلمة بنت أبي أمية زوجة أبي سفيان، وليلى بنت أبي حثمة امرأة عامر بن ربيعة، رضوان الله عليهم .
يقول محمد بـن إسحـاق: (لمـا رأى رسـول الـله - صلى الله عليه وسلم - ما يصيب أصحابه من البلاء والعذاب من قِبَل كفار قريش قال لهم: «لـو خرجـتم إلى أرض الحـبشة؛ فـإن فيـها مـلكاً لا يُظلم عنده أحدٌ، وهي أرض صدقٍ، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه»، فخرج من المسلمين في مكة أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، كان منهم عثمان بن عفان وامرأته رقيَّة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك لخمس سنين من البعثة) .
ويظهر جلياً أن هذا التَّوجُّه نحو إفريقيا لم يكن توجُّهاً جزافاً، أو خبط عشواء يبتعد به المهاجرون عن منطقة الشَّر والاضطهاد إلى المجهول، وإنما كان توجُّهاً واعياً، واختياراً مناسباً من لدن صاحب الرِّسالة الذي وجَّه المهاجرين الأُوَل إلى تلك الأراضي، ففي شهادات هؤلاء المهاجرين تصديقٌ تاريخيٌّ لحصافة الاختيار النَّبوي لأرض الحبشة. تقول أم سلمة - رضي الله عنها -: «فجاورنا بها خير جار، أَمِنَّا على ديننا، وعَبَدْنا الله - تعالى - لا نُؤذَى ولا نسمع شيئاً نكرهه» ، فالنَّبــي - صلى الله عليه وسلم - وهو الأمين على الوحي الإلهيِّ لم يكن ليتصرَّف عن الهوى، ويُبعد أصحابه عن قريبٍ مالكٍ لأمرهم؛ ليُلقي بهم إلى بعيدٍ يتجهَّمهم دون أن يتثبَّت من الحالة الدَّاخليَّة للحبشة وخبرها ملكاً وشعباً.
كذلك؛ فإنَّ الابتعاد عن منطقة الشَّر والفتنة له غاية محدَّدة وهو أن يجعل الله للمهاجرين فرجاً ممَّا هم فيه، يعودون بعده لمتابعة المسيرة الدَّعويَّة؛ لذلك عاد المهاجرون فوراً لمجرَّد نماء شائعة إليهم بأنَّ الإسلام قد ظهر أمره بمكَّة ، فعادوا على الرغم من حسن الوفادة وكرم الضِّيافة اللذين حظوا بهما في كنف ملك الحبشة؛ حرصاً منهم على الرِّسالة التي خرجوا في سبيل حمايتها، وامتثالاً بوصيَّة صاحب الرِّسالة لهم، فلم تغرّهم حياة الدَّعة والفرص الجديدة في أرض الحبشة عمَّا خرجوا من أجله.
وتبعت تلك الهجرة هجرةٌ أخرى تضاعف عدد المهاجرين فيها إلى ثلاثة وثمانين رجلاً، وإحدى عشرة امرأة، وكان لها بُعدها السياسي المتميِّز في التَّعريف برسالة الإسلام، وسماحته، وكسب المزيد من المساندة الخارجيَّة كما هو معلوم في السِّيرة؛ إذ حاولت قريش إخماد تلك الهجرة، وإيغار قلب النجاشي على الإسلام والمهاجرين، فلم يفلحوا ، بل كانوا كما قال الشاعر:
وإذا أراد الله نشرَ فضيلةٍ *** طُوِيَـتْ أتاحَ لها لسـانَ حسُـودِ
لولا اشتعالُ النارِ فيما جاوَرتْ *** ما كانَ يُـعرَف طيبُ عَرْف العودِ
وبعد تلكما الهجرتَين الخالدتَين تتابعت هجرات المسلمين من جزيرة العرب ومهد الإسلام إلى أرض إفريقيا، وكانت لتلك الهجرات أثرها في الحفاظ على الأرواح المسلمة، وفي إشعاع الأراضي الإفريقيَّة بنور الإسلام وحضارته على أيدي المهاجرين، ومن تلك الهجرات:
* في الشَّرق الإفريقي:
كان الشَّـرق الإفريقـي - بحكـم قربه من الجزيرة العربيَّة - أوَّل الأراضي الإفريقيَّة في احتضان الهجرات الإسلاميَّة الأولى، وفي تتابُع العلاقات الاجتماعيَّة بين العرب وبين شعوب شرق إفريقيا، ومن تلك الهجرات:
- هجرة بني مخزوم القرشيِّين إلى الحبشة:
كانت تلك الهجرة في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعلى رأسها ود بن هشام المخزومي، وقيل: إنهم كوَّنوا فيما بعد مملكة إسلاميَّة بأرض الحبشة سنة 283هـ .
- هاجر كذلك جماعة من المسلمين إلى الساحل الشرقي من إفريقيا؛ سنة 65 هـ، وكان لها دورها في إنشاء المراكز التِّجاريَّة على الساحل الإفريقيِّ .
وعلى كل حال؛ فإن المقام يضيق بسرد تلك الهجرات الكثيرة إلى مناطق شرق إفريقيا؛ سواء الهجرات الجماعية؛ مثل: هجـرات الـهنـود المسلمـين والـهجرات الشيـرازيَّـة، أو الهجرات الفرديَّة، مما كان له الأثر الفعَّال في تشكيل حضارة مناطق شرق إفريقيا ونسيجها الاجتماعي والدِّيني، حتى أصبح من المستحيل فصل تلك المعالم الحضاريَّة لشعوب شرق إفريقيا عن الإسلام .
ومن أهم الممالك الإسلاميَّة التي قامت في شرق إفريقيا بفعل الهجرات: سلطنة «مقديشو» وأسَّسها المهاجرون الزَّيديون، وسلطنة «كلوة» وأسسها علي بن الحسن بن علي بن صاحب شيراز، ومملكة «شوة الإسلاميَّة»، وأسسهــا المهاجــرون المخــزوميُّـون، وممـلكة «أرابينـي»، و «بالي» و «دارة»، و «داوارو»، و «زنجبار»، و «سفالة»، و «ممبسة»، وجميعها ممالك إسلاميَّة معروفة تناوبت حمل لواء الدَّعوة، والجهاد في إفريقيا، وصولاً إلى العصر الحديث، وقيام ممالك جديدة إسلاميَّة، وحركاتٍ دعويَّة نشطة مستلهمة لرؤى تلك الحركات القديمة ، وقد أحبطت تلك الحركات الكثير من الخطط الاستعماريَّة الخبيثة في محاولتها القضاء على الإسلام ورموزه.
إنَّ الهجرات الإسلاميَّة قد شملت جميع مناطق إفريقيا، وكانت ذات أثرٍ ملحوظ في تألُّق الحضارة الإنسانيَّة والإسلاميَّة في مختلف ربوع إفريقيا، وظهرت حركات دعويَّة وإصلاحيَّة كثيرة استلهمت دروس الهجرة النَّبويَّة الخالدة في مشروعها الدَّعويّ الإصلاحيّ؛ فكان ذلك من أسباب نجاحها وسرعة تحقيقها لأهدافها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق