السبت، 25 نوفمبر 2017

الكريم .. الغيور .. بقلم الكاتب الاديب الراقي/الشاعر المبدع د.صالح العطوان الحيالي 25-11-2017

الكريم .. الغيور .. الكامل زعيم الخزرج الصحابي " سعد بن عبادة رضي الله عنه "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ د.صالح العطوان الحيالي 25-11-2017
سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن النعمان بن أبي حزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن غسان بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. رغم أنه كان زعيما للخزرج .. ورغم أنه كان من المدينة .. إلا انه انفرد من بين الأنصار بحمله النصيب الأكبر من تعذيب قريش والذي كانت تنزله بالمسلمين في مكة .. وإذا كان من الطبيعي أن تنال قريش بعذابها ممن يعيشون في مكة من المسلمين .. فإن الأغرب أن يتعرض لهذا العذاب رجل من المدينة .. وهو ليس رجل عادي .. بل زعيم كبير من زعمائها وساداتها .. فتلك ميّزة قدّر له أن ينفرد بها .. وترجع أحداث واقعة تعذيبه عقب انتهاء بيعة العقبة سرا .. واستعداد الأنصار للسفر .. فقد علمت قريش بما كان من مبايعة الأنصار واتفاقهم مع الرسول صل الله عليه وسلم على الهجرة إلى المدينة والوقوف معه ومن ورائه ضد قوى الشرك والظلام .. فجنّ جنون قريش .. وراحت تطارد الركب المسافر حتى أدركت من رجاله هذا الصحابي الجليل .. وأخذه المشركون .. وربطوا يديه إلى عنقه بشراك رحله .. وعادوا به إلى مكة .. و احتشدوا حوله يضربونه وينزلون به ما شاءوا من العذاب .. وهم لا يعلمون أن من يضربونه زعيم المدينة .. الذي طالما أجار مستجيرهم .. وحمى تجارتهم .. وأكرم وفادتهم حين يذهبون إلي المدينة .. ويحكي هو بنفسه ما حدث له .. يقول " .. فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع عليّ نفر من قريش .. فيهم رجل وضيء .. أبيض .. شعشاع من الجمال.. فقلت في نفسي: إن يك عند أحد من القوم خير .. فعند هذا .. فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة .. فقلت في نفسي: لا والله .. ما عندهم بعد هذا من خير ...نتوقف عند هذا المشهد لنتعرف في البداية علي هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه .. هو سعد بن عبادة بن دليم بن كعب بن الخزرج الأنصاري .. سيِّد الخزرج .. يكنى أبا ثابت وأبا قيس .. وكانت أمُّه عمرة بنت مسعود من المبايعات .. وقد توفيت بالمدينة في زمن النبي صل الله عليه وسلم سنة خمس .. وكان يكتب بالعربية في الجاهلية .. وكان يحسن العوم والرمي .. ولذلك سُميَ الكامل .. والغريب أن هذا الصحابي الجليل كان يُفكر كثيرًا في الجاهلية التي يعيشها الناس من حوله .. وكيف يمكن أن تتحول تلك القلوب الميتة والضمائر الخربة إلى قلوب وضمائر حيه تسير مع الحق أينما كان .. وشاء الحق جل جلاله أن يبعث الحبيب صل الله عليه وسلم بهذا الدين العظيم ليأخذ الناس من ظلمات الشرك والكفر إلى أنوار التوحيد والإيمان .. وفي موسم الحج في السنة الثالثة عشر من البعثة جاء إلى رسول الله صل الله عليه وسلم بضعٌ وسبعون نفساً من المسلمين من أهل يثرب .. وبايعوا نبي الله صل الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية .. وكان من بين هؤلاء السُعداء سعد بن عبادة رضي الله عنه .. وكان أحد النقباء الإثني عشر .. وكان سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وأبو دجانة لما أسلموا يكسرون أصنام بني ساعدة .. وبعد أن تمت بيعة العقبة سراً .. وأصبح الأنصار يتهيئون للسفر .. علمت قريش بما كان من مبايعة الأنصار واتفاقهم مع الرسول محمد صل الله عليه وسلم على الهجرة إلى يثرب حيث يقفون معه ومن ورائه .. وهنا جنّ جنون قريش فراحت تطارد الركب المسافر حتى أدركت من رجاله سعد بن عبادة فأخذه المشركون .. وربطوا يديه إلى عنقه بشراك رحله وعادوا به إلى مكة .. حيث احتشدوا حوله يضربونه وينزلون به ما شاءوا من العذاب .. ولم يكن الذين اعتقلوه ومن ضربوه يعرفونه أو يعرفون مكانته في قومه .. إلا أن الثابت في هذه الواقعة أن قريشا في تلك الأيام كانت مجنونة .. ترى كل مقدرات جاهليتها تتهيأ للسقوط تحت معاول الحق .. فلم تعرف سوى اشفاء أحقادها نهجا وسبيلا .. فكانت تضرب وتعذب وتقتل .. دون عقل أو فكر .. فأحاط المشركون بسعد بن عبادة ضاربين ومعتدين .. ولما جاءه واحد من أهل قريش وقال له : ويحك .. أما بينك وبين أحد من قريش جوار..؟ قلت: بلى.. كنت أجير لجبير بن مطعم تجارة .. وأمنعهم ممن يريد ظلمهم ببلادي .. وكنت أجير للحارث بن حرب بن أميّة .. قال الرجل: فاهتف باسم الرجلين .. واذكر ما بينك وبينهما من جوار .. ففعلت .. وخرج الرجل إليهما .. فأنبأهما أن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح .. وهو يهتف باسميهما .. ويذكر أن بينه وبينهما جوارا .. فسألاه عن اسمي.. فقال سعد بن عبادة .. فقالا: صدقا والله .. وجاءا فخلصاني من أيديهم" .. غادر سعد بعد هذا العدوان الذي صادفه في أوانه ليعلم كم تتسلح قريش بالجريمة ضدّ قوم عزل .. يدعون إلى الخير .. والحق والسلام .. وقرر بعد هذا العدوان أن يتفانى في نصرة رسول الله صل الله عليه وسلم، والأصحاب والإسلام .. بعد أن هاجر الرسول إلى يثرب .. سخّر سعد أمواله لخدمة المهاجرين .. و كان سعد جوادا بالفطرة وبالوراثة .. حاله كحال آبائه في الجاهلية في السخاء والكرم .. فهو ابن عبادة بن دليم بن حارثة الذي كانت شهرة جوده في الجاهلية أوسع من كل شهرة .. ولقد صار جود سعد في الإسلام آية من آيات إيمانه .. وكان لهم أُطُم يُنادى عليها كل يوم : " من أحب الشحم واللحم .. فليأتِ أُطُم دليم بن حارثة " ولمّا قدم النبي صل الله عليه وسلم المدينةَ كان يبعث إليه كل يوم جفنة القصعة من ثَرِيد اللحم أو ثريد بلبن أو غيره .. فكانت جفنة سعد رضي الله تعالي عنه تدور مع رسول الله صل الله عليه وسلم في بيوت أزواجه .. وقالوا: كان الرجل من الأنصار ينطلق إلى داره بالواحد من المهاجرين أو بالاثنين أو بالثلاثة .. وكان سعد بن عبادة ينطلق بالثمانين.. من أجل هذا .. كان سعد يسأل ربه دائما المزيد من خيره ورزقه .. وكان يقول: ( اللهم إنه لا يصلحني القليل .. ولا أصلح عليه ) .. ومن أجل هذا كان خليقا بدعاء الرسول محمد صل الله عليه وسلم له : اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة ، وفي غزوة بدر .. لما أراد الله اللقاء بين المسلمين والكافرين .. وكان المسلمون يريدون القافلة .. أراد النبي أن يعرف رأي الأنصار .. فشاور النبي أصحابه حين بلغه إقبال أبي سفيان .. قال: فتكلم أبو بكر رضي الله عنه فأعرض عنه .. ثم تكلم عمر رضي الله عنه فأعرض عنه .. فقال سعد بن عبادة رضي الله عنه " إيانا تريد يا رسول الله .. والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحار لأخضناها .. ولو أمرتنا أن نضرب أكباد الإبل الغماد لفعلنا " فندب رسول الله الناس
وحينما أُصيب زيد بن حارثة رضي الله عنه .. أتاهم رسول الله صل الله عليه وسلم .. فجهشت بنت زيد في وجه رسول الله صل الله عليه وسلم .. فبكى رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام حتى انتحب .. فقال له سعد بن عبادة : يا رسول الله .. ما هذا ؟ قال "هذا شوق الحبيب إلى حبيبه"
ولم يقتصر تعليم رسول الله صل الله عليه وسلم أو تربيته على الإيمان فقط .. بل امتد إلى أكثر من ذلك .. فيعلمه النبي صل الله عليه وسلم بأن يأخذ حذره .. وذلك لما دعاه رجل من الليل فخرج إليه .. فضربه الرجل بسيفٍ فأشواه .. فجاءه النبي صل الله عليه وسلم يعوده من تلك الضربة .. ولامه على خروجه ليلاً .. وهذا هو موضع الفقه ..ومن مواقفه مع رسول الله صل الله عليه وسلم أن استأذن رسول الله - صل الله عليه وسلم - على سعد بن عبادة فقال :( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ) فقال سعد :( وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ) ولم يُسْمع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى سلّمَ ثلاثاً .. وردَّ عليه سعد ثلاثاً .. ولم يُسْمِعْهُ .. فرجع النبي - صل الله عليه وسلم- فاتبعه سعدٌ فقال :( يا رسول الله .. بأبي أنت ما سلّمتَ تسليمة إلا وهي بأذُني .. ولقد رددتُ عليك ولم أسْمِعْكَ .. أحببتُ أن أستكثرَ من سلامِكَ ومن البركة ) ثم دخلوا البيت فقرّب إليه زبيباً فأكل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فلمّا فرغ قال : ( أكلَ طعامكم الأبرار .. وصلّتْ عليكم الملائكة .. وأفطر عندكم الصائمون )
يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: اشتكى سعد بن عبادة رضي الله عنه شكوى له .. فأتاه النبي صل الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين .. فلما دخل عليه وجده في غاشية أهله .. فقال: " قد قضي ؟" قالوا : لا يا رسول الله .. فبكى النبي صل الله عليه وسلم .. فلما رأى القوم بكاء النبي صل الله عليه وسلم .. بكوا .. فقال "ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب .. ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم .. وإن الميت يعذَّب ببكاء أهله عليه " وكان سعد بن عبادة غيورا على عرضه وشرفه .. عن ابي هريرة قال سعد بن عبادة : يارسول الله لو وجدت مع اهلي رجلا لم امسه حتى أتي بأربعة شهداء ؟؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ..
قال : كلا .. والذي بعثك بالحق ان كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسمعو إلى سيدكم .. إنه لغيور .. و أنا أغير منه .. و الله أغير مني
عن ابن عباس رضي الله عنه .. قال: لما نزلت (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا (النور: 2 قال سعد بن عبادة رضي الله عنه وهو سيد الأنصار: هكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله : "يا معشر الأنصار .. ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟" قالوا: يا رسول الله .. لا تلمه .. فإنه رجل غيور .. والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرًا .. وما طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته .. فقال سعد: "والله - يا رسول الله - إني لأعلم أنها حق .. وأنها من عند الله .. ولكني تعجبت أني لو وجدت لكاع قد تفخذها رجل .. لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء .. فو الله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته" الحديث
وعن أبي هريرة قال سعد بن عبادة : يارسول الله لو وجدت مع أهلي رجلا لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء .. قال رسول الله صل الله عليه وسلم : نعم .. قال : كلا .. والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك .. قال رسول الله صل الله عليه وسلم : اسمعو إلى سيدكم .. إنه لغيور .. و أنا أغير منه .. و الله أغير مني وفي وفاة أمه .. روى البخاري أن ابن عباس قال: أن سعد بن عبادة رضي الله عنه أخا بني ساعدة توفيت أمه وهو غائب عنها فأتى النبي صل الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها شئ إن تصدقت به عنها؟ قال نعم قال فإني أشهدك أن حائطي بالمغراف صدقة عليها..ومن مواقفه ما أخبر به عروة عن أسامة بن زيد: أن رسول الله صل الله عليه وسلم ركب على حمار عليه قطيفة فدكية وأسامة وراءه يعود سعد بن عبادة في بني حارث بن الخزرج قبل موقعة بدر فسارا حتى مرا بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي فإذا المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود وفي المسلمين عبد الله بن رواحة فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر بن أبي أنفه بردائه وقال لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صل الله عليه وسلم عليهم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فقال له عبد الله بن أبي بن سلول أيها المرء لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا فمن جاءك فاقصص عليه .. قال عبد الله بن رواحة بلى يا رسول الله فاغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل رسول الله صل الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا ثم ركب رسول الله صل الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال رسول الله صل الله عليه وسلم ( أي سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب - يريد عبد الله بن أبي - قال كذا وكذا ) .. فقال سعد بن عبادة أي رسول الله بأبي أنت اعف عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ولقد اصطلح أهل هذه البحرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك فذلك فعل به ما رأيت .. فعفا عنه رسول الله صل الله عليه وسلم وكان رسول الله صل الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى قال الله تعالى {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب}. الآية ..ومن مواقفه أيضا مع النبي صل الله عليه وسلم ما يرويه عبد الله بن سعد الأسلمي .. عن آل نضلة الأسلمي .. أنهم خبروا أن زاملة رسول الله صل الله عليه وسلم ضلت .. فحملوا جفنة من حيس فأقبلوا بها حتى وضعوها بين يدي رسول الله صل الله عليه وسلم .. فجعل يقول: "هلم يا أبا بكر .. فقد جاءك الله بغداء طيب" وجعل أبو بكر رضي الله عنه يغتاظ على الغلام .. فقال النبي صل الله عليه وسلم: "هون عليك .. فإن الأمر ليس إليك .. ولا إلينا معك" قد كان الغلام حريصاً ألا يضل بعيره .. وهذا خلف مما كان معه .. فأكل رسول الله صل الله عليه وسلم وأهله وأبو بكر .. وكل من كان مع رسول الله صل الله عليه وسلم حتى شبعوا .. قال: وجاء سعد بن عبادة وابنه قيس بن سعد بزاملة تحمل زاداً .. يومان رسول الله صل الله عليه وسلم .. حتى يجدا الرسول صل الله عليه وسلم واقفاً عند باب منزله قد أتى الله بزاملته .. فقال سعد: يا رسول الله .. قد بلغنا أن زاملتك أضلت مع الغلام .. وهذه زاملة مكانها .. فقال رسول الله صل الله عليه وسلم .. قد جاء الله بزاملتنا فارجعا بزاملتكما بارك الله عليكما .. أما يكفيك يا أبا ثابت ما تصنع بنا في ضيافتك منذ نزلنا المدينة ؟ قال سعد: يا رسول الله .. المنة لله ولرسوله .. والله يا رسول الله .. للذي تأخذ من أموالنا أحب إلينا من الذي تدع .. قال: صدقتم يا أبا ثابت .. أبشر فقد أفلحت .. إن الأخلاق بيد الله عز وجل .. ومن أراد الله أن يمنحه منها خلقاً صالحاً منحه .. ولقد منحك الله خلقاً صالحاً .. فقال سعد: الحمد لله الذي هو فعل ذلك .. قال ثابت بن قيس: يا رسول الله .. إن أهل بيت سعد في الجاهلية سادتنا والمطعون في المحل منا قال رسول الله صل الله عليه وسلم: "الناس معادن .. خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا .. لهم ما أسلموا عليه"
وكانت شخصية سعد تتسم بالشدة والقوة .. ففي يوم فتح مكة جعله الرسول - صل الله عليه وسلم - أميرا على فيلق من جيش المسلمين .. ولم يكد يصل الى مشارف مكة حتى صاح :( اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ) فكأنه عندما رأى مكة مستسلمة لجيش الفتح .. تذكر كل صور العذاب الذي صبته على المؤمنين وكان ذنبهم أن يقولوا : لا إله إلا الله .. فدفعه الى توعدهم .. فسمعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. وسارع الى النبي صل الله عليه وسلم قائلا : ( يا رسول الله .. اسمع ما قال سعد بن عبادة .. ما نأمن أن يكون له في قريش صولة ) فأمر النبي - صل الله عليه وسلم- عليا كرم الله وجهه أن يدركه .. ويأخذ الراية منه .. ويتأمر مكانه .. وتفسيرهذا الموقف لسعد حين رأى مكة مذعنة مستسلمة لجيش الإسلام الفاتح .. تذكّر كل صور العذاب الذي صبّته على المؤمنين .. وعليه هو ذات يوم .. وتذكر الحروب التي سنتها على قوم ودعاة كل ذنبهم أنهم يقولون : لا إله إلا الله .. فدفعته شدّته إلى الشماتة بقريش وتوعدها يوم الفتح العظيم .. ولكن سعد بن عبادة بموقفه هذا .. كان يستجيب في صدق لطبيعته وسجاياه .. فهو كما ذكرنا شديد التثبت باقتناعه .. وممعن في الإصرار على صراحته ووضوحه ..
ويدلنا على هذه السجيّة فيه .. موقفه بين يدي رسول الله صل الله عليه وسلم بعيد غزوة حنين .. فحين انتهى المسلمون من تلك الغزوة ظافرين .. راح رسول الله صل الله عليه وسلم يوزع غنائمها على المسلمين .. واهتم يومئذ اهتماما خاصا بالمؤلفة قلوبهم .. وهم أولئك الأشراف الذين دخلوا الإسلام من قريب .. ورأى رسول الله صل الله عليه وسلم أن يساعدهم على أنفسهم بهذا التآلف .. كما أعطى ذوي الحاجة من المقاتلين .. وأما أولو الإسلام المكين .. فقد وكلهم إلى إسلامهم .. ولم يعطهم من غنائم هذه الغزوة شيئا .. وكان عطاء رسول الله صل الله عليه وسلم .. مجرّد عطائه .. شرفا يحرص عليه جميع الناس.. وكانت غنائم الحرب قد أصبحت تشكّل دخلا هاما تقوم عليه معايش المسلمين .. وهكذا تساءل الأنصار في مرارة : لماذا لم يعطهم رسول الله صل الله عليه وسلم حظهم من الفيء والغنيمة..؟؟
وقال سعد للرسول صل الله عليه وسلم :( يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت .. قسمت في قومك .. وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب .. ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء ) فقال الرسول - صل الله عليه وسلم - :( فأين أنت من ذلك يا سعد ؟) قال : ( يا رسول الله ما أنا إلا من قومي ) قال : ( فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة ) .. فلما اجتمعوا أتاهم الرسول - صل الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه وقال : ( يا معشر الأنصار .. ما قالة بلغتني عنكم .. وجدة وجدتموها علي في أنفسكم .. ألم آتكم ضُـلالا فهداكم الله .. وعالة فأغناكم الله .. وأعداء فألف الله بين قلوبكم ) فقالوا : ( بلى .. الله ورسوله أمـن وأفضـل ) ثم قال :( ألا تجيبونني يا معشر الأنصار ؟) قالوا :( بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المن والفضل) قال - صل الله عليه وسلم - : ( أما والله لو شئتم لقلتم .. فلصَدقتم ولصُدّقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك .. ومخذولا فنصرناك .. وطريدا فآويناك .. وعائلا فآسيناك .. أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكَلْتكم إلى إسلامكم ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحـالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجـرة لكنت امرا من الأنصـار .. ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار .. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار .. وأبناء أبناء الأنصار ) فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم ، وقالوا وسعد معهم :( رضينا برسول الله قسما وحظا ) ،ولما قبض الرسول - صل الله عليه وسلم- انحاز بعض الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة منادين بأن يكون خليفة رسول الله - صل الله عليه وسلم - وخطب فيهم سعد - رضي الله عنه - موضحا أحقية الأنصار بذلك .. وقال : بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "يا معشر الأنصار .. لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب .. إن محمدًا لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان فما آمن به من قومه إلا رجال قليل .. وتوفاه الله وهو عنكم راضٍ وبكم قرير عين .. استبدوا بالأمر دون الناس .. فإنه لكم دون الناس" .. ولكن لأن الرسول - صل الله عليه وسلم- قد استخلف أبا بكر على الصلاة أثناء مرضه .. فقد فهم الصحابة أن هذا الاستخلاف مؤيدا لخلافة أبي بكر رضي الله عنه .. وتزعم عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الرأي .. وسارع أبوبكر وعمر وأبوعبيدة بن الجراح - رضي الله عنهم - إلى الأنصار .. واشتد النقاش حول أحقية الخلافة .. أراد عُمَر الكلامِ، فقال له أبو بكر‏:‏ على رِسْلِك .. وخطب أبوبكر الصديق خطبة بين فيها فضل المهاجرين والأنصار وقال .. لقد علمتم أن رسول الله صل الله عليه وسلم .. قال: "لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَ الأَنْصَارُ وَادِيًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ". وما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهله .. وإنا والله يا معشر الأنصار ما ننكر فضلكم .. ولا بلاءكم في الإسلام .. ولا حقكم الواجب علينا .. ولكن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش .. وهم أوسط العرب دارًا وأنسابًا .. نحنُ المهاجرون أوّلُ الناس إسلامًا .. وأوْسَطُهم دارًا .. وأكرمُهم أحسابًا .. وأحسنُهم وُجوهًا .. وأكثرُ الناس وِلايةً في العرب وأمسُّهم رَحِمًا برسول الله صل الله عليه وسلم .. أسلمَنا قبلكم .. وقُدِّمْنا في القرآن عليكم .. فأنتم إخوانُنا في الدِّين .. وشركاؤنا في الفَيْء .. وأنصارُنا على العَدُوّ .. اويْتُم وواسَيْتُم .. فجزاكم اللّه خيرًا .. نحن الأمَراءُ .. وأنتم الوزراء لا تَدِينُ العربُ إلا لهذا الحَي من قرَيش .. وأنتم محقوقون ألا تَنْفَسوا على إخوانكم من المهاجرين ما ساق الله إليهم .. وفي خاتمة كلمته قال :( هذا عمر وهذا أبوعبيـدة فأيهما شئتـم فبايعـوا) .. فقال الاثنان:(لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك ).. ثم قال عمر:(ابسط يدك نبايعك ) .. فسبقهما بشير بن سعد - رضي الله عنه - وهو من كبار الأنصار وبايع أبا بكر وتلاه عمر وأبو عبيدة .. فقام الحاضرون من الأنصار والمهاجرين فبايعوه .. وفي اليوم التالي اجتمع المسلمون في المسجد وبايعوه بيعة عامة
وفي الأيام الأولى من خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .. ذهب سعد إلى أمير المؤمنين .. وقال بصراحته المتطرفة :( كان صاحبك أبو بكر - والله - أحب إلينا منك .. وقد – والله - أصبحتُ كارهاً لجوارك ) .. فأجاب عمر بهدوء :( إن من كره جوار جاره .. تحول عنه ) .. وعاد سعد فقال :( إني متحول إلى جوار من هو خير عنك ) .. وبهذا أراد سعد ألا ينتظر ظروفا قد تطرأ بخلاف بينه وبين أمير المؤمنين .. خلاف لا يريده ولا يرضاه .. فتتسع الهوة بينهما .
شـدّ سعد بن عبادة - رضي اللـه عنه - الرحال إلى الشام .. وما كاد أن يبلغهـا وينزل أرض حوران حتى دعـاه أجله وأفضى إلى جوار ربـه الرحيم قيل: سنة ثلاث عشرة .. وقيل: سنة أربع عشرة من الهجرة .. روى أبو داود من حديث قيس بن سعد أن النبي صل الله عليه وسلم قال: "اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة" .. وروى أبو يعلى من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم : "جزى الله الأنصار خيرًا، لا سيما عبد الله بن حرام وسعد بن عبادة" .. رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق