الاثنين، 25 ديسمبر 2017

مدينة أنطاكية /بقلم الكاتب الاديب الراقي/الشاعر المبدع د. صالح العطوان الحيالي 15-12-2017

مدينة أنطاكية ( ملكة الشرق والعاصمة المنسية ) .. أهميتها ومكانتها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي 15-12-2017
انطاكية مدينة تاريخية تقع على الضفة اليسرى لنهر العاصي على بعد 30 كم من شاطئ البحر المتوسط في لواء الإسكندرون الواقع تحت السيادة التركية.
تعتبر مدينة أنطاكية إحدى أهم المدن في تاريخ سورية حيث أنها كانت عاصمة سورية قبل الفتح الإسلامي في القرن السابع، وما زالت حتى الآن عاصمة للكنائس المسيحية الشرقية. دُعيت مدينة أنطاكيّة بلقب "مهد المسيحية" نتيجة للدور المحوري الذي لعبته المدينة في ظهور كل من الهلنستية اليهودية والمسيحية المبكرة. ودعي المؤمنون بالمسيحية بإسم مسيحيين أول مرة في مدينة أنطاكية في نحو سنة 42 أو 43 للميلاد.
كانت أنطاكية في العصر الهلنستي عاصمة الإمبراطورية السلوقية وفي العصر الروماني تصاعدت أهميتها حتى صارت ثالث أكبر مدينة في العالم بعد روما والإسكندرية. تقع أنطاكيا في قارة آسيا، في الشمال الغربيّ لدولة سوريا، عند الطرف الجنوبي من سهل العمق؛ حيث تقع على الضفة اليسرى لنهر العاصي، يحدّها من الشرق جبل سلبيوس ومن الغرب يحدّها نهر العاصي، وتقع أنطاكيا حالياً من ضمن المناطق التركية؛ ففي القديم كانت من ضمن أراضي الدولة السورية تابعةً لمقاطعة لواء أسكندرون السورية ولكنها انضمّت إلى تركيا عام 1939 للميلاد.
عند انتهاء الحكم العثماني في البلاد العربيّة بعد الحرب العالمية الأولى عادت أنطاكيا إلى الحكم السوري، ولكن قامت الدولة الفرنسية التي كانت منتدبةً على سوريا في تلك الفترة بالتخلي عن منطقة لواء الإسكندرون كاملاً لتركيا ومن ضمنها مدينة أنطاكيا في عام 1939م، وهي ما زالت إلى الآن تعتبر من الأراضي التركية وتابعةً لمدينة هاتاي.نقل العرب العاصمة من أنطاكية إلى واحة دمشق لأسباب لوجستية. تعرضت أنطاكية في التاريخ الإسلامي للغزو عدة مرات من الروم والصليبيين، وبعد انتهاء الحروب الصليبية صارت تابعة لحلب. كما وقعت تحت النفوذ الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى قبل انتقالها تحت السيطرة التركية سنة 1939.
أهمية أنطاكية
ــــــــــــــــــــ : تُعَدُّ مدينة أنطاكية من أهم المدن في منطقة الشام وآسيا الصغرى، بل لا نبالغ إن قلنا إنها كانت من أهم مدن العالم القديم بأسره، وذلك لمميزات خاصَّة تفوقت بها هذه المدينة على غيرها.فهي :
أولاً
ـــــــــــ : مدينة رئيسية منذ قديم الزمان، كانت تتخذها الدولة البيزنطية قديمًا عاصمة لمنطقة الشام بكاملها ولعدة قرون.
ثانيًا
ـــــــ: هي مدينة دينية من الطراز الأول، حيث يعظِّم النصارى شأنها جدًّا، فهي أول مدينة أطلق فيها على أتباع المسيح اسم المسيحيين، وذلك كما جاء في سِفْر أعمال الرسل: "ودُعي التلاميذ مسيحيين في أنطاكية أولاً" . وفي هذه المدينة أسَّس القديس بطرس أول أسقفية له .
ثالثًا
ـــــــــ: وصل الفتح الإسلامي إلى هذه المدينة مبكرًا جدًّا، ففتحت بالإسلام في سنة (15هـ) 636م على يد المجاهد الجليل أبي عبيدة بن الجراح ، فهي إسلامية منذ أكثر من 460 سنة .
ويرجع الفضل في تحويلها إلى منطقة إسلامية واضحة المعالم إلى الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان ، الذي لاحظ تكرار الهجمات البيزنطية على هذه المدينة بالذات، فقرر أن يُعطِي فيها وحَوْلها إقطاعاتٍ ضخمة لمن ينتقل إليها من المسلمين؛ فرحل إليها المسلمون من دمشق وحمص ولبنان، بل ومن العراق، ليستوطنوا في هذه المنطقة، وبالتالي تغيرت التركيبة السكانية في المنطقة لصالح المسلمين، وصارت المدينة إسلامية آمنة، خاصةً بعد تثبيت الأقدام الإسلامية في المدن التي تقع في شمالها مثل مرعش وطرسوس وملطية وغيرها .
رابعًا
ـــــــــ: فهذه المدينة صاحبة تاريخٍ تجاريٍّ عظيم، فهي من أهم المراكز الاقتصادية في المنطقة، بل إنها كانت من مراكز التبادل التجاري المشهورة بين الدولة الإسلامية والدولة البيزنطية في الفترات التي كان السِّلم يغلب فيها على العَلاقة بين الدولتين .
خامسًا:
ـــــــــــ تُعَدُّ هذه المدينة من أحصن مدن الشام، بل من أحصن مدن العالم آنذاك، وكانوا يقارنون حصانتها بحصانة القسطنطينية أحصن مدن العالم القديم .
ولعلنا إذا نظرنا نظرة سريعة إلى جغرافيتها ندرك مدى الحصانة الطبيعية التي وهبها الله لهذه المدينة، فضلاً عن القلاع والحصون؛ فالمدينة محاطة بالجبال العالية من جهتي الجنوب والشرق، ويحدها من الغرب نهر العاصي، وهي محاطة أيضًا من الشمال بمستنقعات وأحراش. وفوق هذه الحماية الطبيعية فهي محاطة بأسوارٍ عالية من كل جانب، وعلى هذه الأسوار ثلاثمائة وستون برجًا للمراقبة وإطلاق السهام والرماح والقذائف المشتعلة، فضلاً عن قلعة حصينة جدًّا من الصعب أن تُقتحم.
سادسًا
ــــــــــ: تقع هذه المدينة على أول طريق الشام للقادمين من آسيا الصغرى ، وعلى ذلك فسقوطها يعني فتح الطريق للشام، كما أن بقاءها بما فيها من جنود وحامية يجعل تجاوزها دون إسقاط أمرًا في غاية الخطورة؛ لذلك لم يكن هناك بُدٌّ للصليبيين من التوقف أمامها.
سابعًا
ـــــــ: هذه المدينة وإن كانت مدينة داخلية غير ساحلية إلا أنها على مقربة جدًّا من البحر الأبيض المتوسط وموانئ السويدية واللاذقية، مما يجعل وصول المؤن إليها عن طريق البحر أمرًا ممكنًا بل ميسورًا.
ثامنًا
ـــــــــ: التركيبة السكانية في داخل أنطاكية كان لها طابع خاص جدًّا، فعلى الرغم من قدم توطُّن المسلمين فيها إلا أنه كان بها أعدادٌ كبيرة من النصارى الأرثوذكس، وأيضًا من النصارى الأرمن؛ وذلك للأهمية الدينية لهذه المدينة عندهم، وقد عاشوا قرونًا طويلة مع المسلمين في هذه المدينة في تعايش جميل، لم يعكر صفوه على مدار السنين فتنة طائفية ولا اضطهاد عنصري.
تاسعًا
ـــــــــــ: التاريخ القريب لهذه المدينة شهد بعض التغيرات التي أضافت بعض التعقيدات إلى القصة، فهذه المدينة سقطت في أيدي الدولة البيزنطية في (358هـ) أول نوفمبر سنة 969م، في عهد الإمبراطور نقفور فوقاس ، وأحدث سقوطها دويًّا هائلاً في العالمين الإسلامي والمسيحي، فهي وقت سقوطها كان قد مرَّ عليها أكثر من ثلاثة قرون بأيدي المسلمين، وهي في نفس الوقت المدينة الدينية المعظَّمة عند عموم العالم المسيحي بشقيه الأرثوذكسي والكاثوليكي.
كما أن الدولة البيزنطية بعد سقوطها قتلت الكثير من أهلها، وأخرجت الباقي، وهجَّرتهم خارجها، واستقدمت جموعًا هائلة من المسيحيين ليعيشوا فيها، وظل الوضع على هذه الصورة إلى العقد الثامن من القرن الحادي عشر، أي بعد موقعة ملاذكرد الشهيرة سنة (463هـ) 1071م؛ حيث شهدت منطقة أنطاكية هجرة مزدوجة من السلاجقة والأرمن، مما أدى إلى تغيُّر الخريطة السكانية من جديد، بل إن العنصر الأرمني غلب على التوزيعة الجديدة. وقد أدى الانهيار البيزنطي أمام السلاجقة إلى سعي الدولة البيزنطية إلى التعاون مع الأرمن -على كراهيتها لهم- لمقاومة السلاجقة؛ وهذا أدى إلى رسوخ قدم أكبر في المنطقة، بل تطاول الأرمن أكثر وأكثر، وخرجوا عن تبعية الدولة البيزنطية، وحاصر أحد أكبر قادتهم وهو فيلاريتوس مدينة الرها، واستولى عليها من البيزنطيين، وذلك في سنة (469هـ) 1077م، ثم في السنة التالية مباشرة (470هـ) 1078م استطاع فيلاريتوس أن يستولي على أنطاكية ذاتها بعد قتل آخر حاكم بيزنطي لها .
غير أن الأرمن لم يحكموا أنطاكية إلا سبع سنوات فقط، حيث سقطت في يد سليمان بن قُتلمش مؤسِّس دولة سلاجقة الروم، وذلك في سنة (477هـ) 1085م ، ليبدأ فيها حكمًا إسلاميًّا من جديد بعد غياب 119 سنة متصلة. ومن جديد بدأ السلاجقة وعموم المسلمين يتزايدون في المدينة، وذلك جنبًا إلى جنب مع النصارى الأرثوذكس على أَتْباع المذهب البيزنطي، والأرمن الذين تكاثروا في السنوات الأخيرة. وهذا التاريخ القريب -كما نرى- أعطى تعقيدًا واضحًا للموقف، فأنطاكية متنازعٌ عليها بوضوح من الطوائف الثلاثة: المسلمين بقيادة السلاجقة، والدولة البيزنطية والأرمن، إضافةً إلى القوة الجديدة القادمة من أوربا الغربية!
عاشرًا
ــــــــــ: أنطاكية بالذات حلم كبير في ذهن بوهيموند، الزعيم النورماندي الشرس، فهو لا ينسى أنها كانت أُمْنيَّة أبيه روبرت جويسكارد زعيم النورمان الإيطاليين الشهير، وأن أباه أرسل جيشًا قبل ذلك بسبعة عشر عامًا، وبالتحديد في سنة (473هـ) 1081م لإسقاط أنطاكية، وكان على رأس هذا الجيش بوهيموند نفسه، ولكن هذا الجيش فشل في إسقاط المدينة الحصينة، والفشل في عُرْف هؤلاء القراصنة عار كبير، فهم لا يعيشون إلا على السلب والنهب والسرقة والقنص.
ولذلك فإن بوهيموند لم ينس أنطاكية أبدًا، ويأخذ القضية كثأر قديم، ويضحِّي بكل شيء من أجل استحواذها، وليس في ذهنه دين ولا صليب، ولا يتحرك قلبه لقدس أو حجيج، ولا يخشى في ذلك إمبراطور الدولة البيزنطية الذي تظاهر بالصداقة له، ولا زعماء الحملة الصليبية الذين يصاحبونه في هذه العمليات الإجرامية. إن المسألة عنده مسألة شخصيَّة تمامًا، وسيبيع كل شيء ويشتري أنطاكية!
هذه أمور عشرة جعلت قضية أنطاكية قضية معقدة جدًّا، وهي محطُّ أنظار الجميع، وعليها سيكون التنافس بين كل القوى الموجودة في المنطقة....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق