الجمعة، 24 أغسطس 2018

" صقلية " /بقلم الكاتب الاديب الراقي/الشاعر المبدع/د.صالح العطوان الحيالي الحيالي

" صقلية " الاندلس المنسي..ظلت تحت الإسلام 472 سنة
ــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي .العراق. 14.8.2018
تقع جزيرة صقلية على البحر الأبيض المتوسط تحت أيطاليا ..وصقلية الأن تعتبر جزء من إيطاليا وظلت تحت الإسلام مدة 472 سنة عامرة بالحضارة والإزدهار .. وهي صفحه مشرقة في الدولة الإسلامية والأوربية. وكان الخليفة معاوية بن أبي سفيان أول من غزاها كما قال البلاذري، يغزو براً وبحراً، وهو أول من أسس أسطولاً إسلامياً، ووجه إلى صقلية أيضاً عبد الله بن قيس بن مخلد فأصاب منها أصنام ذهب وفضة مكللة بالجواهر، ووجه بها معاوية إلى البصرة ثم إلى الهند لتباع هناك، وأغزى جنادة بن أمية الأزدي أيضاً جزيرة رودس ففتحها، وأقام المسلون بها سبع سنين في حصن اتخذوه لهم. وقد استرد يزيد بن معاوية جيش المسلمين وعادت الجزيرة الكبرى صقلية وما حولها إلى الحكومة البيزنطية. وكان من حسنات معاوية أنه أقام في الجزر التي فتحها جاليات إسلامية، وبنى فيها مساجد، وترك مقرئين يعلمون ويقرئون القرآن، هذا مع أن فتوحه كانت جزئية.
وتوقفت غزوات المسلمين البحرية بعد معاوية، ولكن البحريين من المسلمين في الشرق وفي الاندلس ناوشوا جزر البحر الأبيض وشواطئ أوروبا، ولم تأت أعمالهم بفتوح ذات قيمة تاريخية ولكنهم لفتوا أنظار هذه البلاد إلى قوة المسلمين
ولعل تاريخ الفتوحات الإسلامية لم يعرف فتحاً أعنف وأقسى وأشق من فتح صقلية التي لم يسيطر المسلمون عليها سيطرة كاملة إلا بعد مرور ثلاثة أرباع القرن في زمن الدولة الاغلبية في عهد الامير الاغلبي زيادة الله بن إبراهيم الأغلب ، الذي تولى الحكم سنة 201 هـ ، حيث نزل الشيخ القاضي أسد بن الفرات ورجاله إلى مرسى مزارا في جنوب غرب صقلية الموافق يوم الثلاثاء 18 ربيع الأول سنة 212هـ الموافق 17 يونيو 827م. وكان ابن الفرات فقيهاً مالكياً طالت رحلته وتنقلاته في الشرق، وتلقى الفقه المالكي والحنفي، وجعل من مدونتي مالك وابن القاسم وآرائه الخاصة مدونة فقهية باسمه، وكان شيخا مسنا لكنه محارباً شجاعاً، ورأى زيادة الله أن يجعله على رأس هذه الحملة، ويظهر أن إخلاصه في الجهاد أضفى على الجيش كله روح التضحية وحب الاستشهاد. ووصل الجمع إلى ميناء مزارا التي في جنوب الجزيرة، فألقى ابن الفرات فيهم خطبة لم تشر إلى شيء من الحرب والغنائم بل حثهم فقط على التقوى وتحصيل العلوم.
يقول المؤرخ الايطالي ألماري عن أسد بن الفرات رحمه الله: إنه رجل يتطلع إلى ما وراء هذا العالم ويتخذ من العلم والجهاد وسيلة لبلوغ الرسالة التي خرج من أجلها .
وزحف البيزنطيون بعد ذلك إلى المسلمين وهم يحاصرون مدينة “سرقوسة”، واشتد حصار المسلمين لهذه المدينة براً وبحراً، وأصيب عدد كبير من المسلمين، وهلك عدد آخر، واشتد القتال عندما بعث الإمبراطور البيزنطي مدداً لصقلية، وجرح ابن الفرات وهو يبدي حسن التدبير، وصدق الإيمان، وقوة الإرادة، فمات -رحمه الله- متأثراً بجراحه، ودفن بمدينة “قصريانة”. وخلف ابن الفرات في القيادة محمد بن أبي الجواري، وجاء أسطول بيزنطي آخر، فتراجع المسلمون نحو الشمال، لكنهم فتحوا في طريقهم أحد الحصون، وحاصروا قصريانة مرة أخرى. وتوفي محمد بن أبي الجواري أيضاً، فتولى من بعده زهير بن عوف، وضاق الأمر بالمسلمين إلى أن وصل مدد أفريقية، وأسطول آخر من الأندلس من ثلاثمائة مركب بقيادة “الأصبغ”، فانتصر المسلمون، وتوفي الأصبغ أيضاً بطاعون انتشر في ذلك الوقت، غير أن الخلافات التي وقعت بين المسلمين الأندلسيين، والمسلمين الأفريقيين، قد أخرت إتمام فتح الجزيرة.
ويعتبر العباس بن الفضل بن جعفر هو الفاتح الحقيقي لجزيرة صقلية، فقد خلف أباه في قيادة القوات الإسلامية، فأرسل قواته إلى مختلف جهات صقلية، وكان يقود أغلبها بنفسه، واتجه إلى الساحل الشرقي التي كان البيزنطيون قد استردوها من المسلمين وحاصرهم خمسة أشهر حتى استسلموا، فتح بعدها خمسة حصون، واستسلمت مدينة “قصريانة” وفتح قلعتها التي ظلت تقاوم ثلاثين سنة، وابتنى فيها مسجداً. وقد جعل الفتح الإسلامي لصقلية البحر المتوسط بحيرة تحت السيادة الإسلامية الكاملة وأصبحت صقلية قاعدة تنطلق منها الحملات والغزوات الإسلامية التي شملت جميع أنحاء إيطاليا من البندقية أو جنوا إلى روما وباري وعلى طول ساحل البحر الأدرياتيكي.
صارت صقلية بعد فتحها إمارة أغلبية، يتولى أمرها والٍ من قبلهم، وكان الأغالبة في نزاع ومناوشات مستمرة مع الدولة الفاطمية التي نشأت بالمغرب، وتريد الزحف نحو الشرق، وكان هناك أقوى بين المذهبين السني والشيعي، وكان ذلك ينعكس على جزيرة صقلية، وكان بين سكانها نزاع بين العرب والبربر من قبل.
وإن الفاطميين تغلبوا على بني الأغلب في إفريقية، وحلوا محلهم في متسهل القرن الحادي عشر الميلادي، ثم انتزعوا منهم صقلية، وهي على انقسامها وتفرقها، فاضطروا إلى إعمال الشدة، فشهدت الجزيرة أياماً قاسية سوداً، حتى عين الخيلفة المنصور الفاطمي الحسنَ بن علي بن أبي الحسن والياً عليها، فبدأ عهداً جديداً عرف بعهد الكلبيين، والذي امتد قرناً من الزمان، كانت الدولة فيه كلبية فعلاً وإن لم تنقطع عن الفاطميين، ولم يدم هذا العهد طويلاً، ولسنا بسبيل الأسباب التفصيلية لسقوط الكلبيين، غير أن نهاية عهدهم كانت بداية فوضى واضطراب، وتقسمت الجزيرة الصغيرة إلى دويلات وأشتات قبائل وأحزاب، وعادوا جميعاً بعد الإسلام كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعضهم. وكان بين رؤوسهم رجل يدعى ابن الثمنة ففعل فعلة أيو فيميوس وطلب تدخل النورمانديين، فوجدوا الجزيرة فريسة سهلة، فاستولوا عليها وضموها إلى جنوب إيطاليا، وبذا انتهى العهد الإسلامي في هذه الجزيرة بعد قرنين ونصف قرن أو ما يزيد عن ذلك ببضعة عشر عاماً
وكان موقف المسلمين في صقلية كموقف المسلمين في إسبانيا، إذ ترقبوا نجدة من الدول الإسلامية، وعلى الأخص بني زيري الذين خلفوا الفاطميين على غرب إفريقية، ولكن لم يمد أحد لهم يد المساعدة، فاضطروا إلى التسليم والاستسلام.
ويقول ابن الأثير إن مسلمي صقلية أرسلوا وفداً إلى المعز بن باديس لطلب النجدة فأعد أسطولاً وقوات كبيرة ثم وجهها إلى صقلية إلا أنها تعرضت للغرق إثر عاصفة بحرية قرب نتللريا وبعد وفاة المعز وفقاً لرواية ابن الأثير أرسل ابنه تميم نجدة إلى صقلية بقيادة ولديه أيوب وعلي لكنهما انسحبا وعادا إلى إفريقيا بجنودهما وتركا صقلية إلى مصيرها.
لقد صاحب الغزو النورماني لصقلية هجرة إسلامية واسعة إلى إفريقيا ومصر وغيرها من البلدان العربية وعندما سيطر النورمانيون على الجزيرة قُدر عدد المسلمين الذين ظلوا بصقلية ما بين المئة والثلاثمائة ألف مسلم من العرب والبربر والصقليين الذين اعتنقوا الإسلام وقد تجمع القسم الأكبر منهم في بالرمو وساحل (مازار) وسهولها. و غادرها عدد من كبار علمائها وأدبائها الذين ما لبثوا أن أثبتوا تفوقهم العلمي في البلاد التي استقروا فيها. ومثال ذلك الشاعر الصقلي المعروف “أبو محمد عبد الجبار بن حمديس ” (ت 527 هـ / 1132 م ) الذي هاجر إلى بلاط الملك المعتمد بن عباد في ” أشبيلية” بالأندلس، ورثى وطنه بأروع ما قيل من شعر في هذا الفن من المراثي
قال ابن حمديس في الرثاء وقد نظمها وهو في الستين من عمره يحن الى بلده صقلية
قضت في الصبا النفس أوطارها .... وأبلغها الشيب أنــــــذارها
نعم وأجيلت قـــــــداح الهــــوى .... عليها فقسّمن أعـــــشارها
وما غرس الدهـــــــــر في تربة ..... غراسا ولم يجــــن أثمارها
ذكرت صقــــــــلية والأســـــــى ..... يهيج للنفــــس تــــذكارها
ومنزلة للتصابــــــي خلـــــــــت ..... وكان بنو الظرف عمارها
ولولا ملوحــــة مــــــاء البكـــا ..... حسبت دموعي أنهارهـــا
فلا تعظمــــــن لديـــــك الذنوب ..... فما زال ربك غـفـــــارها
كذلك نذكر الفقيه والعالم النحوي “أبا القاسم علي بن جعفر المعروف بابن القطاع الصقلي ” الذي هاجر إلى مصر في خلافة الآمر الفاطمي واختاره الوزير ” الأفضل بن بدر الجمالي ” مؤدباً لأولاده. و “لابن القطاع ” مؤلفات عديدة في اللغة والنحو والعروض وفي تاريخ صقلية، بعضها مفقود والبعض الآخر موجود. ويذكر الوزير الغرناطي “ابن الخطيب ” أن بعض المهاجرين من صقلية إلى المغرب، غيروا انتسابهم إلى صقلية بالقلب (أي بقلب الياء قبل الصاد) فصاروا يعرفون بالصياقلة.
وقد زار ابن جبير الرحالة المسلم صقلية بعد سقوطها فوصف أحوال أهلها تحت الحكم النصراني ، بما يجعلها قريبة من أحوال أهل الأندلس ، فقد ضربوا عليهم إتاوة يؤدونها في فصلين من العام ، وحالوا بينهم وبين سعة الأرض ، ولا جمعة لهم يؤدونها بسبب الخطبة المحظورة عليهم ، ويصلون الأعياد بخطبة يدعون فيها للعباس ، ولهم بها قاض وجامع. . ثم يختم ابن جبير حديثه عن أحوال المسلمين في صقلية بقوله : ” وبالجملة فهم غرباء عن إخوانهم المسلمين تحت ذمة الكفار ، ولا أمن لهم في أموالهم ولا في حريمهم ولا في أبنائهم. . . ” .
دخل النورمانديون صقلية فأدهشهم ما نقلها المسلمون إليه من رقي وحضارة. لقد بذلوا جهداً في ترقيتها في كل جوانب الحياة حتى بدا الفرق بينها وبين الدول التابعة لبيزنطة بعيداً جداً، شيدوا مبانٍ عظيمة، ونشطوا وسائل التجارة، وعملوا على استصلاح الأراضي وزرعها، وأدخلوا أنواعاً من النباتات ومن الحيوانات لم يكن للأوروبيين بها عهد ولا علم، إلى جانب ذلك كله وجدوا فنوناً راقية وأدباً عالياً، وعديداً من المساجد بها حلقات التعليم، تبدأ بتعليم الكتابة العربية والقرآن الكريم، وتنتهي بدراسات عليا في علوم كثيرة دينية وغير دينية. وهكذا تقدم ورقي في كل شيء. إن الفرق واسع جداً بين ما وجد العرب صقلية عليه بعد خروج البيزنطيين، وبين ما وجدها عليه النورمانديين بعد خروج المسلمين.
يقول الدكتور عبد الجليل شلبي ( كان النورمانديين على حظ من الذكاء، وقد عرفوا به من قبل، لهذا لم يفعلوا بآثار المسلمين ما فعل بها الإسبان )
وهذا بعد تنصير صقلية بزمن بطويل- أفتى القسس بأن المسلمين رجس وآثارهم نجس لا يطهره إلا إحراقه بالنار، حتى الجدران أفتوا بهدمها وإحراقها، وبهذا تأخرت حضارة إسبانيا ثمانية قرون حقاً، أما هؤلاء فرأوا الإبقاء والمحافظة على حضارة العرب، وحاكوهم واستفادوا من كل ما تركوا إلا الدين الإسلامي، فقد كانت عداوة الإسلام، وعلى الأصح، كانت الصورة التي قرّت في أذهانهم عنه مما يصعب محوه، ولكن حضارة صقلية ظلت في تقدم لمدة طويلة بعد، وظلت مظاهر الحياة العربية بادية عليها، ولو تقبل النورمانديون الإسلام واتخذوه ديناً لكان عهد هذا الازدهار الحضاري أطول زمناً وأبقى.
على أن الملك روجار الأول (1092- 1101 م) وإن كان قد قضى على الحكم الإسلامي في صقلية، إلا أنه لم يتعرض للمسلمين من أهلها بأذ ى، يل عمل على حمايتهم وأقرهم على ديانتهم وشريعتهم، وترك لهم قضاتهم يتحاكمون إليهم، وجند فرقة منهم في جيوشه، كما أباح لهم حرية الاحتفال بأعيادهم علناً.
هذا فضلاً عن أنه امتنع عن الاشتراك في الحروب الصليبية رغم إلحاح البابا عليه في ذلك.
وهكذا كانت صقلية في أيامه مملكة نصف إسلامية في دينها وفي نظامها الإداري والعسكري.
– وبعد وفاة روجار الأول خلفه ابنه روجار الثاني (1101- 1154 م) الذي أجمع المؤرخون على أنه قد بالغ في حماية رعاياه المسلمين بنفوذه وقوانينه، فأحبوه ومدحوه في شعرهم لدرجة أن بعضهم كان يعتقد خط أنه كان مسلماً في السر. وقد بلغ من تسامح هذا الملك وحبه للعدل والمساواة أنه كان يضرب نقوده بكل اللغات التي يستعملها رعاياه. فكانت نقود صقلية في عهده منقوشة بالعربية واللاتينية واليونانية. كذلك يؤثر عنه أنه كان يحاكي ملوك المسلمين في أزيائهم الفضفاضة على قدر ما حاكى أزياء قياصرة الروم، وأباطرة الفرنج، كأنما أراد بذلك أن يبين للناس بأن سياسته غير مرتكزة على ترجيح عنصر على آخر. وامتلأ بلاطه في مدينة بلرمو بعدد من، شعراء المسلمين وعلمائهم نذكر على رأسهم الجغرافي المغربي الكبير الشريف “أبا عبد الله محمد السبتي ” المعروف بــ”الشريف الإدريسي ” لأنه من سلالة الأدارسة، ملوك المغرب، وأحفاد الرسول ( ( صلى الله عليه وسلم ) عن طريق “الحسن بن علي بن أبي طالب “. وكان هذا الرحالة الإدريسي (493 هـ- 548 هـ/ 0 110- 1154 م) ولوعاً بالأسفار والاطلاع على أحوال البلاد وعادات أهلها. فلما زار بعض أقاربه في جزيرة صقلية، استدعاه الملك روجار الثاني إلى بلاطه في بلرمو وبالغ في إكرامه والاحتفال به لكونه من أبناء الملوك، ثم طلب منه وضع رسم جامع للأرض، فلبى الشريف طلبه ورسم له خريطة للعالم المعروف في عصره على دائرة فضية مسطحة طولها ثلاثة أمتار وعرضها متر ونصف. كذلك ألف له كتاب” نزهة المشتاق في اختراق الآفاق ” لوصف هذه الخريطة، ويعرف هذا الكتاب أيضاً بالكتاب الروجاري أو كتاب روجار لأنه هو الذي طلبه منه.
وهكذا نري، أن الملك روجار الثاني كان على حد قول العالم الإيطالي ميشيل أماري، سلطاناً عربياً يحمل تاجاً كملوك الإفرنج،وأن تسامحه الديني أدى إلى امتزاج الثقافات العربية واليونانية واللاتينية، فصارت صقلية معبراً من المعابر الأساسية التي عن طريقها انتقل تر1ث الحضارة الإسلامية إلى أوربا مما كان له أثره في قيام حركة النهضة المعروفة باسم حركة الرنيسانس في أواخر العصور الوسطى.
أما فريدريك الثاني – حفيد روجر الثاني – فكان أبرز وأعجب ملوك صقلية. كان وريث عرش ألمانيا من قبل أمه، ووارث الملك في صقلية من قبل أبيه وعن طريق زواجه من الأميرة إيزابيلا ولية عهد أبيها في ملك بيت المقدس – تلك المملكة التي نشأت أثناء الحروب الصليبية- صار أيضاً ملك بيت المقدس، ثم هو شأن النورمانديين جميعاً إمبراطور لإيطاليا، وكان يسمى إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة. وقد شارك في الحروب الصليبية بغية الحكم والسيادة، ولكن اختلاطه بالمسلمين في الشرق جعله يوليهم تقديراً واحتراماً أكثر، وجعلت العادات والمظاهر الشرقية تتأصل فيه وفي دولته
و كان بعد حملته الصليبية الفاشلة على صلة بخلفاء صلاح الدين، وكان هو والملك الكامل محمد يتبادلان الهدايا، ولم تخل سيرته من غرابة، أهمها: أنه كانت يجمع بين الأعمال الجادة النافعة والأعمال اللاهية التي لا طائل وراءها غير الأبهة والتباهي. كان في بلاطه عدد من الفلاسفة وفدوا من الشرق، وكانوا ذوي لحى طويلة وملابس فضفاضة، وكان الناس يحاكونهم في زيهم وسائر مظاهر حياتهم، وكان في بيته راقصات يهوديات من الشرق، وكان له مجموعة من الحيوانات النادرة ومن الطيور، وكان كلفاً بها حتى إنه يصطحبها في تنقلاته في أوروبا وحين يرحل من صقلية إلى ألمانيا. ولكن هذا اللهو لم يخل من وجهة نظر علمية، فقد أحضر من سورية مدربين للصقور التي لديه، ولكنه قام بتجربة علمية إذ ذاك، وهي تغطيته أعين الصقور بغطاء محكم ليرى مدى اهتدائها بحاسة الشم، وكان يقرأ الفلسفة والرياضة والفلك، ولما صادفته مرة مسائل معضلة فيها ولم يستطع حلها، أرسلها إلى السلطان الكامل الأيوبي طالباً للحل أو معجزاً لعلمائه، ولكن بعض العلماء المصريين حلها حلاً شافياً، وأضيف هذا إلى ما أخذ الغرب عن الشرق. وطلب مرة أخرى علماء مصريين ليجربوا تجارب على بيض النعام كي يمكن تفريخه وفقسه على حرارة الشمس، وترجمت له كتب عربية وفارسية في تدريب الصقور، وأخرج هو نفسه كتاباً عنها، كما ترجمت له كتب أرسطو عن الحيوان والنبات، وشروح ابن سينا عليها. وهكذا كان هذا الملك جاداً في لهوه، ولم يكن يعبث فيما يعمل ولا يجعل عمله لمجرد الإمتاع.تم خلف روجار الثاني ابنه وليام الأول (1154- 1166 م) الذي سار على سياسة أبيه وجده في حماية المسلمين وتشجيع الدراسات العربية الإسلامية، وكانت علامته مثل علامة أبيه “الحمد لله وشكراً لنعمته “.
ثم خلفه ابنه وليام الثا ني (1166 ـ 1189 م) الذي على الرغم من مساهمته في الحروب الصليبية حينما أرسل حملته البحرية الفاشلة على مدينة ” الإسكندرية (569 هـ/1172 م)، في أوائل عهد صلاح الدين الأيوبي، إلا أنه – كما يقول الرحالة الأندلسي المعاصر ” ابن جبير”- تشبه بملوك المسلمين، وأتقن اللغة العربية قراءة وكتابة، واختار من رعاياه المسلمين وزراءه وحراسه وجواريه تاركاً لهم حريتهم الدينية، وكانت علامتـه “الحمد لله حق حمد ه “.وبعد وفاة “وليام الثاني ” بدون عقب له، حدثت منازعات داخلية حول العرش، أسفرت في النهاية عن تولية،” فردريك الثاني ” ابن “هنري السادس ” إمبراطور ألمانيا وكونستانسا بنت روجار الثاني. وبهذا صار “فردريك الثاني ” إمبراطوراً ”
المذابح ونهاية الوجود الإسلامي بصقليّة :
------------------- شهدت صقلية أول مذبحة للمسلمين بعد وفاة روجير الثاني سنة 1161 حيث قتل عدد كبير منهم في أعنف حملة تطهير ودمرت أحياؤهم السكنية ونهبت أموالهم ومتاجرهم وشهد عام 1189م و1190م زوال الوجود الإسلامي من بالرمو ومعظم مدن صقلية وإن ظل يقيم بها أفراد غيروا أسماءهم واعتنقوا المسيحية. إزاء هذا العداء الصارخ هب ما تبقى من المسلمين للدفاع عن أنفسهم وأرواحهم ودينهم وتزعم هذه الحركة حسب رواية ابن جبير عدد من القادة برز من بينهم محمد بن عباد الذي عرفته الرواية الأوروبية باسم (المرابط) وقام بثورته ما بين العقدين الثاني والثالث من القرن الثالث عشر وشغل قوات فردريك في معارك قاسية. لكن فردريك استطاع أن يحاصر ابن عباد وضيق الخناق عليه حتى استسلم بشرط ان يتمكن من مغادرة صقلية مع أولاده إلى إفريقيا ووعده فردريك بذلك إلا أنه غدر به ونقله إلى بالرمو حيث أعدمه مع اثنين من أولاده وواصلت من بعده القتال ابنته التي لم يذكر اسمها. وكذلك أورد الحميري قصة ابن العباد ومقاومته ومن ثم إعدامه حيث قال إن فردريك وعد محمد بن عباد بأن يسمح له بالسفر مع أولاده إذا استسلم إلا ابنته رفضت الاستسلام ونصحت أباها بعدم الاستسلام وعندما رفض نصيحتها فضلت البقاء في القلعة ومعرفة ما سوف ينتهي إليه أمر والدها وعندما علمت بما حل بوالدها واصلت المقاومة وصممت على الاستماتة في القتال فخرجت مع رجالها من القلعة وغارت على جيش فريدريك بغية فك الحصار 619هـ ـ 1222/1223م وصممت على الانتقام لوالدها وذات يوم أرسلت إلى فريدريك تعلمه أنها تريد الاستسلام ولكنها تخشى ممانعة رجالها لها. ولذلك فإنها تطلب منه إرسال ثلاثمائة فارس من خيرة رجاله ليلاً وأخبرته أنها سوف تفتح لهم القلعة وتمكنهم من الاستيلاء على القلعة وسر فردريك من الفكرة وأرسل إليها فرسانه وفي الصباح توجه فريدريك إلى القلعة ففوجئ برؤيته رؤوس فرسانه تتدلى فوق أسوار قلعة عنتبلا وحاول فريدريك استدراجها بالحيلة والإغراء فأمنها على حياتها إذا استسلمت ووعدها بالزواج إلا أنها واصلت المقاومة مع رجالها والحصار الطويل حتى نفذت المؤن والأغذية من القلعة واشتد بها وبرجالها الحال إلا أنها قتلت في معركة مع من كان معها من المسلمين دون استسلام وبعدها اقتحم فريدريك القلعة واستولى على من تبقى منها واختتم ما تبقى من الفصل الأخير من حياة المسلمين داخل جنوب إيطاليا ببطولة فتاة مسلمة ضربت أروع مثل في الشجاعة والإباء والتضحية وسط سلسلة من التخاذل والخيانة والأنانية وقصر النظر الذي قضى على ثاني سلطان إسلامي في أوروبا بعد الأندلس. إلا أنه لم تنته المقاومة بعد استشهاد بطلة غنتيلا بل استمرت المقاومة في جرجنت الأمر الذي دفع فريدريك إلى إبعاد المسلمين خارج صقلية واختار لهم موقع لوتشيرا على فترات زمنية امتدت حتى منتصف القرن الثالث عشر وفي أواخر القرن الثالث عشر في صيف عام 1300 هجم الإيطاليون على لوتشيرا وكانت حملة صليبية اشترك الجميع فيها وفي ذبح وقتل المسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخاً ونهب أموالهم وممتلكاتهم ودمروا المساكن وتقاسموا أراضيها وقضى على البقية من المسلمين وأزيل وجودهم نهائياً من إيطاليا بعد أن دام 472 عاماً

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق