الثلاثاء، 5 يونيو 2018

نائلة بنت الفرافصة رضي الله عنها/بقلم الكاتب الاديب المبدع/الشاعر د. صالح العطوان الحيالي

نائلة بنت الفرافصة رضي الله عنها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي -العراق - 29-5-2018
نائلة بنت الفُرافصة بن الأحوص بن عمرو الكلبية، زوج أمير المؤمنين عثمان بن عفان. كانت خطيبة وشاعرة من أصحاب الرأي والشجاعة، هي زوجة الصحابي عثمان بن عفان, ولدت من عائلة مسيحية في الكوفة, واعتنقت الإسلام لاحقًا على يد عائشة بنت أبي بكر زوجة رسول الله, في العام 28 للهجرة, تزوجت من عثمان بن عفانويقال لم يكن في النساء أحسن منها مضحكاً. أسلمت بعد أن أسلم أخوها ضبّ، وبقي أبوها على النصرانية. أختها هند زوج سعيد بن العاص الذي بعث إلى أبيها الفرافصة أن أمير المؤمنين عثمان يخطب ابنتك نائلة فزوجها إياه، فقال الفرافصة لابنه ضبّ: «زوجها أمير المؤمنين فإنك على دينه»، فزوجها أخوها، ومهرها عثمان رضي الله عنه عشرة آلاف درهم، فقال الأب لابنته لمّا زفّها إلى أمير المؤمنين: «إنك تقدمين على نساء من قريش هنّ أقدر على العطر منك، فلا تُغلبي على الكحل والماء». ولمّا حُملت نائلة من بادية السماوة إلى المدينة إلى أمير المؤمنين حزنت لفراق أهلها فقالت:
أبى الله إلا أن تكوني غريبةً بيثرب لا تلقين أمّاً ولا أبا
ألستَ ترى يا ضبّ بالله أنني مصاحبةٌ نحو المدينة أركُبا
أريدُ أميرَ المؤمنين أخا التقى وخير قريشٍ منصباً ثمّ مركبا
أقامت نائلة في المدينة مع عثمان وأنجبت له مريم الصغرى تزوجها عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وقيل ولدت لعثمان أولاداً عدة هم: عنبسة، أروى، أم خالد، أم أبان الصغرى، أم البنين وتزوجها عبد الله ابن يزيد بن أبي سفيان.
شهدت نائلة مقتل عثمان رضي الله عنهودافعت عنه، وكانت تأتي له بالماء العذب في أثناء حصاره، ولمّا دخل قتلة عثمان عليه أكبت نائلة على عثمان تحميه بنفسها واتّقت سيف أحدهم بيدها فقطع أصابعها، فلم يثنِ هذا القتلة عن هدفهم فما زالوا حتى استشهد عثمان رضي الله عنه، فشاركت نائلة في دفن زوجها فخرجت ومعها السراج، وقالت ترثيه:
ألا إنّ خيرَ الناسِ بعد ثلاثـةٍ قتيلُ التجيبي الذي جاءَ من مصر
وما لي لا أبكي وتبكي قرابتي وقد غُيّبت عنّا فضولُ أبي عمرو
إذا جئتَه يوماً تـرجي نوالَـه بدتْ لك سيماهُ بأبيـضَ كالبـدرِ
وقد نسب بعضهم هذه الأبيات إلى الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أخي عثمان بن عفان لأمه.ثمّ قامت نائلة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبلت القبلة بوجهها، ووجهت إحدى نسوتها تستنهض الناس حتى إذا اجتمعوا قامت فحمدت الله وأثنت وصلت على رسول الله، ثمّ قالت: «عثمان ذو النورين قُتل مظلوماً بينكم بعد الاعتذار، وإنْ أعطاكم العتبى معاشر المؤمنة وأهل الملة. لا تستنكروا مقامي ولا تستكثروا كلامي فإني حرّى عبرى، رزئت جليلاً وتذوقت ثكلاً من عثمان بن عفان؛ ثالث الأركان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم…، فأقام يمدكم بالرأي ويمنعكم بالأدنى، يصفح عن مسيئكم في إساءته، ويقبل من محسنكم بإحسانه، ويكافيكم بماله، ضعيف الانتصار منكم… فاستلنتم عريكته حين منحكم محبته… فحين فقدتم سطوته وأمنتم بطشه ورأيتم أن الطرق قد انشعبت لكم والسبل قد اتصلت بكم ظننتم أن الله يصلح عمل المفسدين، فعدوتم عدوة الأعداء، وشددتم شدة السفهاء على النقي التقي الخفيف بكتاب الله عزّ وجلّ لساناً، الثقيل عند الله ميزاناً، فسفكتم دمه وانتهكتم حرمه واستحللتم منه الحرم الأربع: حرمة الإسلام وحرمة الخلافة وحرمة الشهر الحرام وحرمة البلد الحرام…» ثمّ انصرفت باكية مسترجعة، وتفرق الناس مع انصرافها.
في عصر تجلت فيه شمس الإسلام باسقة.. تجوب الأصقاع وترافق الحشود المؤمنة لنشر دين الله.. تضحك فرحة مستبشرة وهي ترى أشعتها ساطعة من برقة غربًا إلى سيحون شرقًا.. والأصوات المجاهدة تنشد بالحق ليصل الصوت إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فتشمخ بعزٍّ من بارئها وسيف ذي النورين يقود أمة التوحيد.. يزيدها وهجًا بنوره، ومطايا الخير الذي حمله حين سقى المسلمين من بئر رومة وجهَّز جيش العسرة.
لكن هذه الشمس الشامخة غابت في أواخر عهده، حين اعترضتها غيوم سوداء أمطرت سجيلاً على الجموع المسلمة، فاختلط الحابل بالنابل.. ولم تكن أعين يهود بعيدة عن تلك الغيمة، فقد كانوا -لعنهم الله- سببًا في إشعالها.. حين حرك ابن سبأ خيوط المؤامرة من وراء الأستار -كعادتهم- وعاث في الجموع من وراء حجاب يبطن الشرّ ويظهر الولاء.. حتى وصلت الغيوم السوداء إلى سماء مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتفرغ حمولتها في فتنة شعواء عصفت بأمة الإسلام ردحًا من الزمان.
حاول ذو النورين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- منع غبار النقع الأسود من الالتفاف حول شمس الإسلام، لكن جموع الغوغاء من ضعاف النفوس المحاصرين لداره أبتْ إلا صب النار على الهجير.
في دار عثمان بن عفان كانت تسكن امرأة من بني كلب، أحد أشهر بطون العرب في الفصاحة والبلاغة، ولم تكن فصاحة قومها تقتصر على رجالهم بل شملت نساءهم أيضًا.. خطبها عثمان بن عفان -رضي الله عنه- فحملها أهلها له، وحين اجتمع بها رفع قلنسوته عن رأسه فظهر الصلع فيه، فقال لها: يا بنت الفرافصة، لا يهولنك ما ترين من صلعي! فإن تحته ما تحبين. فأمسكت عن الكلام.. فبادرها بقوله: إمَّا تقومي إليَّ، وإمَّا أن أقوم إليك. فقالت: أمَّا ما ذكرت من الصلع فإني من نساء أحب بعولتهن إليهن السادة الصلع، وأما قولك: إمّا أن تقومي إليَّ، وإما أن أقوم إليك، فوالله إنّ ما تجشمته من قطع الصحراء الواسعة والسفر الطويل، لأبعد مما بيني وبينك، بل أقوم إليك.
فقامت وجلست إلى جواره.. فمسح على رأسها ودعا لها بالبركة، فبوركت بفضل من الله عز وجل.. فقد جعل كرم عثمان بن عفان وحنانه في قلبها مودة ورحمة له.. تهبها المرأة المسلمة لزوجها حين يزرع الزوج نبتة الحب في قلبها.
أنجبت نائلة بنت الفرافصة لعثمان بنتًا، وقيل: بنتًا وولدًا.. وكانت له طيلة حياتها معه الزوجة المطيعة الحانية، حتى وصل الطوفان إلى المدينة قادمًا من البصرة والفسطاط، يحمل معه آلافًا من الغوغاء الذين تأبّطوا الشر بسيوفهم يريدون قتل الخليفة عثمان بن عفان.. فحاصروا بيته ونائلة معه تشد من عزيمته، وتؤنس وحدته..
حتى إذا خشي الرعاع من المحاصرين قدوم جيش من الشام لإنقاذ الخليفة المحاصر، قفزوا على داره لا يألون لبيته حرمة، ولا لصحبته مكانة، ولا لفضائله ذكرًا في نفوسهم الآثمة، فقرروا قتله وهو صائم يقرأ القرآن..! عندها أرادت نائلة بنت الفرافصة أن تمنع دخولهم إلى حرمة منزلها، فنشرت شعرها ظنًّا منها أن في قلوبهم بضعًا من إيمان وغض طرف يصون عليهم دينهم.. لكن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- منعها في قوله لها: "خذي خماركِ، فلعمري لدخولهم عليَّ أهون من حرمة شعرك"..
فلم يكن من نائلة وهي ترى السيوف تقترب من زوجها الحبيب إلا وضع يديها لتتقي السيف عن عثمان، فقطع السيف أصابعها ومضى في بطن الخليفة الراشدي الثالث.. وزوجته تحاول صدّ السيوف عن جسده حتى قُتل.
فخرجت نائلة بنت الفرافصة تجمع شعث همومها في موكب دفنه عند أطراف البقيع، حيث وارى الثرى - رضي الله عنه وأرضاه وكفاه ببطشه ما فعلته الغوغاء فيه.
لا أودُّ الخوض في حديث الفتنة الكبرى هنا رغم أنها أمّ الفتن التي انهالت على أمة الإسلام حتى يومنا هذا، ولكني أردت أن أبحث في موقف امرأة لم تكن من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، ولكنها نهلت من معين أحد صحابته كزوجة لعثمان بن عفان وحبيبة له.. كانت بجانبه يوم شدته، ودافعت عنه بجسدها حتى قُطعت أصابعها.. لأقف بكم أيها القراء الأعزاء أمام صورة لحب قلَّ نظيره في زماننا، بل ووفاء نادر لزوج حبيب بقي خالدًا في ذكرى نائلة بنت الفرافصة.. بعد أن دُفن عثمان خطبت نائلة -رضى الله عنها- في المسلمين، فقالت: معاشر المؤمنين وأهل اللَّه لا تستكثروا مقامي، ولا تستكثروا كلامي، فإنى حزينة أُصِبْتُ بعظيم وتذوقت ثكلا من عثمان بن عفان ثالث الأركان من أصحاب رسول اللَّه (، فقد تراجع الناس في الشورى حين تقدم، فلم يتقدمه متقدم ولم يشك في فضله متأثم. ولم تكتف نائلة بذلك بل أرسلت إلى معاوية بكتاب مرفق معه قميص عثمان ممزقًا مليئًا بالدماء، وعقدت في زر القميص خصلة من شعر لحيته، قطعها أحد قاتليه من ذقنه، وخمسة أصابع من أصابعها المقطوعة.
وأوصت إليه أن يعلق كل أولئك في المسجد الجامع في دمشق، وأن يقرأ على المجتمعين ذلك الكتاب، وكان بعض ما جاء فيه: إلى معاوية بن أبى سفيان، أما بعد: فإنى أدعوكم إلى اللَّه الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر، ونصركم على العدو، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، وأنشدكم اللَّه وأذكركم حقه وحق خليفته أن تنصروه بعزم اللَّه عليكم، فإنه قال:( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الحجرات: 9].
وقد اجتمع لسماعه خمسون ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان وأصابعها. وعاشت نائلة حافظة لذكرى عثمان بن عفان وظلتْ وفية له، فلم تتزوج وكانت من أجمل النساء. وكلما جاءها خاطب رَدَّتْه، ولما تقدم معاوية لخطبتها أَبَتْ، وسألت النساء عما يعجب الخطاب فيها، فقلن: ثناياك (وكانت مليحة وأملح ما فيها ثغرها) فخلعت ثناياها، وأرسلت بهن إلى معاوية، وحين سُئلت عما صنعتْ، قالت: حتى لا يطمع في الرجال بعد عثمان. تلك هي "نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص"رمز الشجاعة والصبر والصمود، ذات الأدب والبلاغة والفصاحة، تزوجها عثمان بن عفان فكانت له زوجة مخلصة وفية ومطيعة، وكان عثمان يستشيرها دائمًا لسداد رأيها، وقد حظيت في بيته بمكانة كبيرة. وقد زوجّها له أخوها ضب، وحملها إلى عثمان في المدينة، وكان مسلمًا وكان أبوها نصرانيَّا، وقد تزوجها عثمان وهى نصرانية، وقبيلتها - قبيلة كلب - كلها يومئذ نصارى.
وقد أسلمت نائلة على يديه، وأنجبت له من الولد ثلاثًا: أم خالد، وأروي، وأم أبان الصغرى. وقد روت السيدة نائلة عن عائشة بعضًا من أحاديث رسول الله.إذ بعد وفاة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- خطبها معاوية بن أبي سفيان فرفضته، وقالت حين سُئلت عن سبب رفضها قولاً شهيرًا: "إني رأيت الحزن يبلى كما يبلى الثوب، وإني خفت أن يبلى حزني على عثمان، فيطلع مني رجل على ما اطلع عثمان، وذلك ما لا يكون أبدًا...".
فأين نحن من نائلة بنت الفرافصة تلميذة مدرسة عثمان بن عفان، التي تعلمت فيها حب الزوج حين أحبها، فوهبته حياتها حيًّا وميتًا.. ودافعت عنه بجسدها حين داهمه الخطر؟
لن أقول في قصة نائلة بنت الفرافصة: أيتها المرأة المسلمة، أحبي زوجك ليحبك!! ولكني سأوجِّه خطابي للرجل فأقول له: يا أيها الرجل، أحبَّ زوجتك لتحبك وتعطيك ماء عينيها. رحم الله عثمان بما أحب نائلة.. ورحم الله نائلة في إخلاصها لعثمان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق