الأربعاء، 30 أغسطس 2017

الامام البخاري./بقلم الكاتب الاديب الراقي/الشاعر المبدع د.صالح العطوان الحيالي 27.8.2017

الامام البخاري.. بطل العالم في الذاكرة
ــــــــــــــــــــــــ د.صالح العطوان الحيالي 27.8.2017
من المدهش حقًا أن تجد ذاكرة قوية تستطيع استرجاع كمية من المعلومات في وقت قياسي في عصر أصبح الاعتماد فيه على الأجهزة الإلكترونية لتخزين المعلومات والأرقام شبه كامل.
وقد أدهشنا حقًا عالم الذاكرة "توني بوزان" بمسابقته المعروفة باسم "بطولة العالم للذاكرة" منذ عام 1991، بإخراج شخصيات أقوياء في ذاكرتهم، والبطولة تهدف إلى استعادة الأفراد لقوة الذاكرة التي أهملت لفترات طويلة، عن طريق اختبارات وتمارين تقوم على قياس قوة الذاكرة البحتة، وتضم الأرقام المسموعة وأوراق اللعب (الكوتشينة) والتواريخ والصور والأسماء والوجوه.
استطاع الألماني "كليمنز مايور" أن يتذكر 188 رقمًا بعد أن قيلت له في ثوانٍ، واستحق بذلك لقب بطل العالم في القوة الذهنية.
والمتسابق "بيدمور" ضرب رقمًا قياسيًا عندما استطاع تذكر مجموعة كاملة من أوراق اللعب (الكوتشينة) في أقل من 30 ثانية.
وبوزان يؤكد أن القدرات الخارقة في تذكر الأرقام والمعلومات يمكن تطويرها بالتمرين المستمر.
هذا باختصار عن مسابقة أذهلت العالم في قدرات خارقة في الحفظ والتذكر.
وعندما سمعت عن هذه المسابقة وأبطالها والأرقام المثارة، لم يصيبني أي عجبٍ، فعندنا من العلماء من فاقوا هؤلاء بكثير، كـالطبري وابن حجر وغيرهم.
أما درة الحفاظ، وأعجب ذاكرة تسمع عنها، هو إمام الحديث محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى، إن رجعنا إلى سيرته سنجد عجبًا.
وسنذكر موقفًا واحدًا سيجعلك تندهش وتذهل أمام قدرته العجيبة على التذكر.
لما قدم بَغْدَاد وذاع صيته والناس كانت تأتيه من كل مكان، سمع بِهِ أصحاب الحديث هناك، فَاجْتمعُوا وَأَرَادُوا امتحان حفظه، فعمدوا إِلَى مائَة حَدِيث فقلبوا متونها وأسانيدها وَجعلُوا متن هَذَا الإسناد لإسناد آخر، وَإسْنَاد هَذَا الْمَتْن لمتن آخر .
ودفعوا هذه الأحاديث إِلَى عشرَة أنفس (10رجال) لكل رجل عشرَة أَحَادِيث، وَأمرُوهُمْ إِذا حَضَرُوا الْمجْلس أَن يلْقوا ذَلِك على البُخَارِيّ وَأخذُوا عَلَيْهِ الْموعد للمجلس، فَحَضَرُوا وَحضر جمَاعَة من الغرباء من أهل خُرَاسَان وَغَيرهم وَمن البغداديين، فَلَمَّا اطْمَأَن الْمجْلس بأَهْله انتدب رجل من الْعشْرَة فَسَأَلَهُ عَن حَدِيث من تِلْكَ الْأَحَادِيث، فَقَالَ: البُخَارِيّ لَا أعرفهُ، فَمَا زَالَ يلقي عَلَيْهِ وَاحِدًا بعد وَاحِد حَتَّى فرغ، والبُخَارِيّ يَقُول: لَا أعرفهُ.
وَكَانَ الْعلمَاء مِمَّن حضر الْمجْلس يلْتَفت بَعضهم إِلَى بعض وَيَقُولُونَ فهم الرجل، وَمن كَانَ لم يدرِ الْقِصَّة يقْضِي على البخاري بِالْعَجزِ وَالتَّقْصِير وَقلة الْحِفْظ!
ثمَّ انتدب رجل من الْعشْرَة أَيْضًا فَسَأَلَهُ عَن حَدِيث من تِلْكَ الْأَحَادِيث المقلوبة، فَقَالَ: لَا أعرفهُ، فَسَأَلَهُ عَن آخر، فَقَالَ: لَا أعرفهُ، فَلم يزل يلقِي عَلَيْهِ وَاحِدًا وَاحِدًا حَتَّى فرغ من عشرته، والْبخاري يَقُول: لَا أعرفهُ.
ثمَّ انتدب الثَّالِث وَالرَّابِع إِلَى تَمام الْعشْرَة حَتَّى فرغوا كلهم من إِلْقَاء تِلْكَ الْأَحَادِيث المقلوبة، وَالْبُخَارِيّ لَا يزيدهم على: لَا أعرفهُ.
فَلَمَّا علم البخاري أَنهم قد فرغوا التفت إِلَى الأول، فَقَالَ: أما حَدِيثك الأول، فَقلت كَذَا، وَصَوَابه كَذَا، وحديثك الثَّانِي كَذَا، وَصَوَابه كَذَا، وَالثَّالِث وَالرَّابِع على الْوَلَاء، حَتَّى أَتَى على تَمام الْعشْرَة، فَرد كل متن إِلَى إِسْنَاده وكل إِسْنَاد إِلَى مَتنه، وَفعل بالآخرين مثل ذَلِك، عشرة رجال بعشرة أحاديث، مغلوطة ومصححة (يعني 200 حديث).
وبعد هذه الحادثة أقر النَّاس في بغداد لَهُ بِالْحِفْظِ وأذعنوا لَهُ بِالْفَضْلِ.
هذا الموقف رواه الحافظ ابن حجر بسنده عن جمع من شيوخ بغداد، ثم قال بعده: هُنَا يخضع للبخارِي، فَمَا الْعجب من رده الْخَطَأ إِلَى الصَّوَاب، فَإِنَّهُ كَانَ حَافِظًا؛ بل الْعجب من حفظه للخطأ على تَرْتِيب مَا ألقوه عَلَيْهِ من مرّة وَاحِدَة!
وحقًا لا يستطيع أحد فعل ذلك، حتى أبطال الذاكرة اليوم، فـ"بيدمور" نفسه (بطل الذاكرة السابق الذكر) يؤكد في لقاء له مع صحيفة «التلغراف» أن طريقته أثبتت نجاحًا مع أوراق اللعب والأرقام، ولكن الطريقة ذاتها لا تفيده في حياته اليومية، حين يحاول تذكر الأسماء أو الوجوه، فيقول: «أنا دائم النسيان، أحيانًا أدخل غرفة وأجدني أتساءل عن سبب وجودي هناك».
فأين هؤلاء من البخاري رحمه الله؟
يقول أبو بكر الكلوذاني: مَا رَأَيْت مثل مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل كَانَ يَأْخُذ الْكتاب من الْعلم فَيطلع عَلَيْهِ اطلاعة فيحفظ عَامَّة أَطْرَاف الْأَحَادِيث من مرّة وَاحِدَة .
وَقَالَ أَبُو الْأَزْهَر: كَانَ بسمرقند أَرْبَعمِائَة مُحدث فتجمعوا وأحبوا أَن يغالطوا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل فأدخلوا إِسْنَاد الشَّام فِي إِسْنَاد الْعرَاق وَإسْنَاد الْعرَاق فِي إِسْنَاد الشَّام وَإسْنَاد الْحرم فِي إِسْنَاد الْيمن فَمَا اسْتَطَاعُوا مَعَ ذَلِك أَن يتعلقوا عَلَيْهِ بسقطة .
وكان البخاري نابغًا حفّظًا ليس بعد أن صار محدثًا فحسب، بل منذ بدأ الطلب وهو صغير السن، يقول حاشد بن إِسْمَاعِيل: كَانَ البخاري يخْتَلف مَعنا إِلَى مَشَايِخ الْبَصْرَة وَهُوَ غُلَام، فَلَا يكْتب! حَتَّى أَتَى على ذَلِك أَيَّام! فلمناه بعد سِتَّة عشر يَوْمًا، فَقَالَ: قد أَكثرْتُم عَليّ فاعرضوا عَليّ مَا كتبتم. فأخرجناه، فَزَاد على خَمْسَة عشر ألف حَدِيث، فقرأها كلهَا عَن ظهر قلب، حَتَّى جعلنَا نحكم كتبنَا من حفظه !
هذا هو البخاري رحمه الله، يستحق بجدارة أن يكون بطل العالم في الذاكرة على الدوام، ولستُ أحط من جهود المتسابقين وخوارقهم الفذة، لكن من الأولى أن نشيد بهؤلاء العظام، وأئمتنا الكرام، وحضارتنا البهية، وهذا غيض من فيض وفرد من عد، ورحم الله أئمة المسلمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق