راكبة البحر " ام حرام بنت ملحان رضي الله عنها "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي 17-9-2017
أم حرام بنت ملحان فقد غزت في سبيل الله وركبت البحر، عندما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [عرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر هذا البحر كالملوك على الأسرة فقالت: ادع الله أن أكون منهم يا رسول الله. قال: اللهم اجعلها منهم ]. فماتت رضي الله عنها ودفنت في قبرص. نعم دفنت في قبرص ليست سائحة ولا متنزهة ولكن غازية راشدة بإذن الله ............فمن هى أم حرام؟؟ هى راكبة البحر
أم حرام بنت ملحان ، بن خالد،بن زيد، بن حرام،بن جندب، بن عامر ، بن غنيم ... أخت أم سليم ،وخالة أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وزوجة عبادة بن الصامت رضي الله عنه ...
قالت: بينما رسول اللَّه ( يزورنا إذ وضع رأسه؛ لينام ساعة القيلولة، فاستيقظ فجأة وهو يبتسم، فقالت: لم تضحك يا رسول الله؟ قال: " ناس من أمتى يركبون البحر الأخضر فى سبيل الله، مثلهم مثل الملوك على الأِسّرة " فقالت: يا رسول الله، ادعُ اللَّه أن يجعلنى منهم . قال: "اللهم اجعلها منهم".ثم عاد فضحك فقالت له مثل ذلك، فقال لها مثل ذلك، فقالت: ادع الله أن يجعلنى منهم. قال: "أنت من الأولين ولست من الآخرين" [البخاري].
وقالت: سمعت رسول اللَّه ( يقول: "أول جيش من أمتى يغزون البحر قد أوْجبوا".
قالت: يا رسول اللَّه أنا فيهم؟
قال: "أنت فيهم". ثم قال النبي
(: "أول جيش من أمتى يغزون مدينة قيصر مغفور لهم".
فقالت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: "لا" [البخاري]. وكانت تلك نبوءة تنبأ بها رسول اللَّه (ص) إنها أم حرام بنت ملحان الخزرجية الأنصارية، أخت الرُّمَيْصَاء أم سليم -رضى اللَّه عنهما-. تزوجها عمرو بن قيس -رضى الله عنه- فأنجبت له قيسًا وعبدالله، وظلت مع عمرو بن قيس حتى كانت غزوة أحد، فاستشهد عمرو وولده قيس، فتزوجها عبادة بن الصامت -رضى الله عنه- فعاشت فى كنفه مطيعة راضية.
وكان لأم حرام شغف بالجهاد فى سبيل اللَّه، وباعٌ طويل فيه؛ فقد خرجت مع زوجها عبادةَ إلى الشام فى جيش كان قائده معاوية ابن أبى سفيان -رضى اللَّه عنه- فلما جاز معاوية بجيشه البحرَ، كانت أم حرام تركب دابة لها، فجالت بها الدابة، فصرعتها وقتلتها، وذلك فى غزوة "قبرص"، وهكذا تحققت نبوءة النبي ( ص) لها.
توفيت أم حرام فى خلافة عثمان بن عفان -رضى الله عنه- سنة 28 هجرية، ودفنت فى مكان مَقْتَلِها (بجزيرة قبرص)، وكان الناس كلما مَرّوا بقبرها يقولون: هذا قبر المرأة الصالحة. وروت السيدة أم حرام -رضى الله عنها- بعضًا من أحاديث رسول الله (.صلى الله عليه وسلم).. صحابية أنصارية كانت لها ولعائلتها مكانةٌ مميزةٌ عند رسول الله صلى الله وسلم عليه، أختها هي الصحابية الجليلة أم سليم الأنصارية الملقبة بالغُمَيْصَاءُ أو الرُّمَيْصَاءُ، والدة أنس ابن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخواها سُليم ابن ملحان وحرام ابن ملحان. استشهدا في سبيل الله يوم بئر معونة، أما زوجها الأول فهو الصحابي الجليل عمرو بن قيس استشهد هو وولدها قيس بن عمرو في غزوة أُحد، فتزوجها الصحابي الجليل عبادة ابن الصامت أحد نقباء الإثني عشر الذين اختارهم الأنصار يوم العقبة الثانية بناء على طلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هذه العائلة الجليلة هي من أنصار المدينة المنورة، الذين تسابقوا إلى بذل الغالي والرخيص في سبيل الله تعالى ولنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لنبدأ بسيرة تلك الصحابية من حادثةٍ مفصليةٍ في حياتها، كان ذلك سنة ثلاثة وعشرين للهجرة كانت أم حرام آنذاك امرأةً كهلةً مسنةً تركب البحر مع زوجها عُبادة ابن الصامت وبعض صحابة النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو ذر الغفاري وأبو الدرداء و شداد ابن أوس وغيرهم، كانت تلك أول مرة ترى فيها أم حرام البحر، هذا المخلوق البديع العجيب الرهيب، الذي يُرى أوله مالا يًُرى آخره، تتلاطم الأمواج فيه لتصل أحيانًا إلى ارتفاع أعلى من ارتفاع البيت الذي تسكنه أم حرام، تعيش فيه مخلوقات غريبة عجيبة مختلفة الأحجام والألوان، ينبت في قاعه نباتٌ يختلف عما تعرفه أم حرام من نباتات اليابسة.
تذكرت أم حِرام وصف عمرو بن العاص للبحر حين كتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائلًا: "صف لي البحر وراكبه فإن نفسي تنازعني إليه"، كان معاوية ابن أبي سفيان قد استأذنه في ركوب البحر في نشر دين الله تعالى في الجزر المبثوثة فيه ولذلك سأل عمر عمرًا بن العاص، فقال عمرو ابن العاص: "يا أمير المؤمنين إني رأيت خلقًا كبيرًا يركبه خلقٌ صغير ليس إلا السماء والماء، إن ركد خرق القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول، الناس فيه كدودٍ على عود، إن مال غرق، وإن نجا فرق". فلما قرأ أمير المؤمنين عمرو بن الخطاب وصف عمر للبحر بهذا الوصف، كتب إلى معاوية: "والذي بعث محمدًا بالحق لا أحمل فيه مسلمًا أبدًا". تمتمت أم حرام: لله درك يا عمر والله لم يعدو البحر بما وصفته به، فجأة هبت رياحٌ قوية حركت القارب الذي يضم أم حرام وزوجها يمنةً ويسرةً في حركةٍ عشوائيةٍ، وبدأت أمواج البحر تعلو وتهبط، تخيلتها أم حرام وكأنها ماردٌ عملاق يريد التهام فريسته، فنظرت بفزعٍ إلى بقية القوارب التي يستقلها باقي الصحابة وقد قذفتها الريح كريشةٍ صغيرةٍ، لا تملك لنفسها حولًا ولا قوةً، تمسكت بزوجها عبادة وقلبها يطرق بشدة، صاح عبادة بمن في القارب: تمسكوا بالحبل جيدًا، وإلا قذفتنا الأمواج خارج القارب. لم تعد أم حرام تسمع أو ترى شيئًا مما يجري حولها، فقد أغلقت عينيها وسبحت في مناجاة روحانية لربها الإله القادر المقتدر، خالق البحر والسماء والشمس والأرض. كانت تدرك أنها بهذا، وبهذا فقط تستطيع أن تصبر وتثبت وتتماسك، فهو وحده القادر على معونتهم، وعلى إيصالهم إلى بر السلام بسلام، ولكن ماذا كانت أم حرام ومن معها يفعلون في البحر؟
ذات يومٍ زار النبي صلى الله عليه وسلم آل حرام في بيتهم في قباء وكثيرًا ما كان يزورهم، فلما حان وقت قيلولته فرش له زوجها عبادة فراشًا فاضطجع عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذته سنةٌ من النوم ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت أم حرام: "ما يضحكك يا رسول الله؟" قال: «رأيت ناس من أمتي عرضوا علي غزاةً في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر مثل الملوك على الأسرة، لمعت عينا أم حرام وقالت بصوتٍ ضارع: ادعو الله يارسول الله أن يجعلني منهم، رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه ودعا لأم حرام أن تكون مع هؤلاء المجاهدين، ثم أغمض عينيه وأخذته سنةٌ من النوم مرةً أخرى، استيقظ إثرها وهو يضحك، رددت أم حرام: ما يضحكك يارسول الله؟ أجابها: ناس من أمتي عرضوا علي غزاةً في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر مثل الملوك على الأسرة وقد وجبت لهم مغفرة الله تعالى، هتفت أم حرام بضراعة: ادعو الله يارسول الله أن يجعلني منهم، أجاب صلى الله عليه وسلم مبتسمًا: أنت منهم يا أم حرام، أنت منهم، أنت من الأولين» (صحيح مسلم [1912]).
"صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله، هاهي نبؤتك تتحقق وها أنذا أركب البحر لأغزو في سبيل الله"، هكذا رددت أم حرام في سرها، وقد زال ما في قلبها من خوف واضطراب وحل محله السكينة والطمأنينة والشوق، أجل الشوق، فهي في شوق للوصول إلى قبرص، تلك الجزيرة القابعة في وسط البحر والتي أخضعها الرومان قسرًا لإمبراطوريتهم الغاشمة ومارسوا على أهلها صنوف الأذى والاستبداد، كم تتوق أم حرام إلى نشر دين الله بين أبناء تلك الجزيرة وإلى تحرير أهلها من ظلم الرومان، فتحت عينيها ونظرت حولها فإذا الريح قد سكنت والقوارب قد استقرت على سطح البحر، اقتربت من زوجها وهمست في أذنه: متى سنصل يا عبادة، متى؟ أجابها: نحن بحاجة إلى يومين أو ثلاثة حتى نصل.
رددت: ماذا! يومان أو ثلاثة؟ إذن ما يزال أمامها وقت طويل لتطأ قدماها جزيرة قبرص، أتراها تبلغ ذلك اليوم أم أن أمواج البحر قد تحول بينها وبين بلوغ مأربها، اعترتها قشعريرة عندما تخيلت الأمواج المتلاطمة تبتلعها إلى جوف البحر لتصبح قوتًا لمخلوقاته العجيبة، تذكرت أم حرام الجهد الذي بذله معاوية بن أبي سفيان والي دمشق في إقناع أمير المؤمنين عثمان بن عفان بركوب البحر من أجل نشر دين الله، كانت حجة خليفة الله عثمان في الامتناع عن الموافقة كحجة سلفه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب التي تتلخص في الخوف على جيش المسلمين من مخاطر ركوب البحر هذا المخلوق العجيب الرهيب، لكن عثمان رضي الله عنه وافق على ذلك أمام إلحاح معاوية ولكنه اشترط عليه ألا يجبر أحد من المسلمين على الخروج في تلك الغزوة، بل يترك الأمر لاختيارهم ورغبتهم.
وافق معاوية على الشرط وأعد أسطولًا بحريًا مؤلفًا من عددٍ كبيرٍ من القوارب، وأعلن بين المسلمين عن نيته في المسير إلى قبرص لفتحها ونشر دين الله فيها، انطلق المجاهدون في سبيل الله إلى قبرص، يخوضون البحر الأبيض المتوسط بقيادة عبد الله بن قيس، بعضهم انطلق من الشام وبعضهم الآخر انطلق من مصر، طبعًا لا يمكن لأم حرام أن تنسى ذلك اليوم أبدًا، كيف تنساه وقد انتظرته سنواتٍ طويلة، وبالتحديد منذ تلك الرؤية التي رآها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في بيتها، والبشرى التي زفها إليها قائلًا: «أنت منهم يا أم حرام، أنت منهم»، رفعت أم حرام يديها إلى ربها تشكره أنه أنالها شرف السبق لخوض البحر جهادًا في سبيل الله تعالى، وتدعوه أن يجعلها مما قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «أول جيشٍ من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا، أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفورٌ لهم» (صحيح الجامع [2562])، لم تجبن تلك النساء عن ركوب البحر فكل المخاطر في نظرهن تهون مادام في ذلك رضائهم لله تعالى ورضاءٌ لرسوله.
لنا هنا وقفة مع أم حرام رضي الله عنها، نعقد فيها مقارنة بينها وبين ما عليه حال كثيرٍ من نسائنا اليوم، تولد الواحدة منهن وتعيش وتموت دون أن يكون لها رسالةٌ سامية تعمل وتكدح من أجلها، لا هم لها إلا أن تأكل وتشرب وتتناسل، بعضٌ آخر من النساء يملكن رسالةً وهدفًا في الحياة، لكن إحداهن للأسف لا تعرف كيف تخطط للوصول إلى ما تطمح إليه، أيامها كلها سواء، السنوات كالشهور، والشهور كالأيام، الأيام تمر تلو الأيام والفوضى، وتضيع الوقت، سيد الموقف المتحكم بالحياة، وأختنا الكريمة تكتفي بالأمان والأحلام التي لا تثمر ولا تغني من جوع، هاتيك النساء ينطبق عليهن قول الشاعر:
قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم ....... وعاش قومٌ وهم بالناس أمواتُ
والحقيقة أن حياة المرء لا تقاس بالسنوات والشهور والأيام، بل بمدى ما يحققه من إنجازات وبمقدار ما يتركه من بصمات لا تموت بموته، ولا تزول بزواله، زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بناته وصحابياته رضي الله عنهن، يمتلكن رسالةً وهدفًا وضعنه نُصب أعينهن وسَعين جاهدات لتحقيقه والنهوض للوصول إليه، لذا نرى ذكراهن ما تزال إلى اليوم مشعة ونابضة في الحياة، رغم أن الموت اختطف أجسادهن وغيبهن تحت الثرى منذ أمدٍ بعيد، وفي ذلك يقول الشاعر:
دَقَّاتُ قلبِ المرءِ قائلة ٌ له ..... إنَّ الحياة َ دقائقٌ وثواني
فارفع لنفسك بعدَ موتكَ ذكرها ...... فالذكرُ للإنسان عُمرٌ ثاني
أليس حريٌ بنا أخواتي أن تتساءل إحدانا، أين أنا اليوم وأين أريد أن أكون في المستقبل، ربما كلنا نعرف أين نحن الآن، ولكن معظمنا لا يعرف ماذا يريد أن يكون؟ ماهي رسالته في الحياة؟ وماهي مخططاته لتحقيق تلك الرسالة؟ قرأت مقولةٌ أعجبتني قيلت على سبيل السخرية من الذين لا يعرفون ماذا يريدون أن يفعلوا في حياتهم، تقول هذه المقولة: إذا أردت أن تصل إلى أي مكانٍ لا على التعيين، فليس عليك بذل جهدًا كبير فقط امش بضع خطوات في أي اتجاه ستصل بعد دقيقة واحدة، أما إذا كنت تريد الوصول إلى مكانٍ معين، فعليك أن تعرف أين أنت الآن وإلى أين تريد أن تذهب وكيف يمكن أن تصل. يشبه البعض الشخص الذي لديه رسالة ورؤية لتحقيق تلك الرسالة بقبطان يقود سفينته في خضم البحار، يعرف الموانئ الجيدة وغير الجيدة، يعرف أماكن القراصنة ويستطيع أن يبتعد عنها ولديه خريطة وبوصلة تهديه وتوضح له الطريق، أما الشخص الذي لا يملك رسالة ولا مخطط فهو كالقبطان التائه لا يدري كيف سيسر ولا يعرف الموانئ ولا يملك خريطة تنجيه ولا يملك بوصلة تهديه، لا يرى حوله إلا ماءً وسماءً، قبطانٌ كهذا إخوتي هل يمكن له أن يصل بسفينته إلى حيث يريد؟ هل ينجو من غدر البحار؟ لا أظن ذلك! علماء النفس يقولون: الشخص الذي ليس لديه رسالة معرض لهزات اجتماعية ونكبات مالية واضطرابات نفسية، لا يمكن لشخص كهذا ليس لديه رسالة ولا هدف، لا يمكن أن يكون سعيدًا ولا ناجحًا، عندما يعرف الإنسان ماذا يريد وكيف يصل إلى ما يريد تتولد في نفسه طمـأنينة داخلية، وهذه الطمأنينة مفتاحً من مفاتيح السعادة رغم ما قد يعترض صاحبها من مشاكل جسدية.
السعادة لا تنال بالمال ولا بالعقارات ولا الشركات ولا النزهات ولا حتى بالشهرة والإطراء، السعادة الحقيقية هي في داخل الإنسان في أعماق نفسه البشرية، هي شيءٌ معنوي، لا يُرى بالعين ولا يُقاس بالكم، لا تحتويه الخزائن ولا يمكن له أن يُشترى بالمال، السعادة الحقيقية لا ينالها المرء ولا يحصل عليها إلا إذا كانت رسالته وأهدافه وفقًا لما يرضي عنه الله تعالى ورسوله، يقول الله تعالى في هذا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين} [يوسف:108].
نعود إلى أم حرام، لنراها فرحةً مستبشرةً وقد اقتربت القوارب من ساحل قبرص، قلبها يخفق بشدةٍ لشدة الفرح، ها قد جاء اليوم الذي ظلت تنتظره أكثر من ثمانية عشر عامًا، شهدت أم حرام الصلح الذي جرى بين المسلمين وأهل قبرص، ومكث الجيش الإسلامي في قبرص مدة من الزمن تمكن فيها المسلمين من أن يبينوا لأهل قبرص من تعليمهم الدين الجديد المكمل للرسالات السماوية السابقة، رسالة إبراهيم وموسى وعيسى عليهم صلوات الله وسلامه، وعندما نادى المنادي بالرحيل، توجه المسلمون من جديد إلى ساحل البحر ليركبوا قواربهم صوب بلادهم عائدين، كانت أم حرام تركب على ظهر بغلةٍ شهباء وتسير قرب زوجها عبادة ضمن قافلة المتوجهين إلى ساحل البحر في قبرص، سمع زوجها عبادة تردد بحبور: الحمد لك يا الله، الحمد لك يا رب أن بلغتني دعوة نبيك وشرفتني بتبليغ دينك، ثم أردفت تدعو بدعائها المعتاد الذي كانت تدعو به عقب كل صلاة: اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك وثواب الشهداء، ردد عبادة خلفها: اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك وثواب الشهداء، وهو يتذكر ماعلمهم إياهم النبي صلى الله عليه وسلم في يومٍ من أيام الصحبة الجميلة الفريدة، «من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله الشهادة وإن مات على فراشه» (صحيح مسلم [1909]).
لا أحد يدري كيف حدث ما حدث، فجأة جفلت بغلة أم حرام، ورفعت قوائمها الأمامية وهي تصدر أصواتًا غريبة، وقعت أم حرام من على ظهر البغلة، هرع عبادة إلى زوجته ليساعدها، كانت تتأوه من الألم، وضع رأسها المدمى على ركبيته وهو يصيح بأصحابه ليحضروا من يعالجها، كانت أم حرام فاقدة للوعي، والدم يسيل من رأسها بغزارة، ضمها عبادة إلى صدره وتمازجت دموعه مع دمائها، فتحت عينيها بصعوبة، ونظرت إليه نظرات ذات مغزى، ثم رددت بصوتٍ متقطع: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، وفاضت روحها إلى بارئها في ذلك المكان النائي عن الديار، وقد شاءت إرادة الرحمن أن تنال أم حرام ثواب الشهادة في سبيل الله على الرغم من أنها لم تشهر سيفًا ولم تقاتل أحدًا. نعم ماتت شهيدةً وهي تجاهد في سبيل الله جهاد الدعوة وتبليغ الرسالة، لا تنحصر الشهادة كما علمنا سابقًا في شهيد المعركة، بل هناك شهداء لم تطأ أقدامهم أرض المعركة ومع ذلك يكتب لهم ثواب الشهادة، مِصداقًا لحديث الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد» (صحيح مسلم [1915]). توقف الجيش عن المسير إكرامًا لتلك الصحابية الجليلة وشيع جثمانها إلى مثواه الأخير، بعد أن غُسلت وكُفنت وصُلي عليها، هناك في أرض قبرص، ضم ترابها جسد الصحابية الشهيدة، وانحنى الزوج أمام قبر الحبيبة كأنه يهمس لها في شيء، لاحت في ذاكرته نظراتها الأخيرة، فهم منها أنها توصيه بالصبر، وفهم منها شيئًا آخر، تمتم في خشوع: موعدنا الجنة بإذن الله يا أم حرام، موعدنا الجنة، عاد الجيش أدراجه وبقي قبر أم حرام هناك في قبرص، يذكر المسلمين إلى قيام الساعة بما تحمله سلفهم الصالح من مشاق وما تكبده من مصاعب وأهوال في سبيل نشر دين الله تعالى.
بإمكان كل من يزور قبرص اليوم أن يزور قبر تلك الصحابية الجليلة، ولو أنه توقف هناك وأصغى السمع قليلًا، لربما سمعها تعاتبه وتلومه، محتوى العتاب يتوافق مع قول الشاعر لأمة الإسلام:
يا أمتي، يا أمتي كل شعب قام يبني ..... نهضةً وأرى كنيانكم منقسمًا
في قديم الدهر كنتم أمةً ..... لهف نفسي كيف صرتم أممًا
إخوتي الكرام، إن زرتم قبرص فتذكروا الصحابية الجليلة أم حرام رضي الله عنها، واقرؤوا الفاتحة على روحها الطاهرة، وادعوا الله تعالى أن يوفق المسلمين إلى استعادة مجدهم التليد الذي أضاعوه بأيديهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي 17-9-2017
أم حرام بنت ملحان فقد غزت في سبيل الله وركبت البحر، عندما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [عرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر هذا البحر كالملوك على الأسرة فقالت: ادع الله أن أكون منهم يا رسول الله. قال: اللهم اجعلها منهم ]. فماتت رضي الله عنها ودفنت في قبرص. نعم دفنت في قبرص ليست سائحة ولا متنزهة ولكن غازية راشدة بإذن الله ............فمن هى أم حرام؟؟ هى راكبة البحر
أم حرام بنت ملحان ، بن خالد،بن زيد، بن حرام،بن جندب، بن عامر ، بن غنيم ... أخت أم سليم ،وخالة أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وزوجة عبادة بن الصامت رضي الله عنه ...
قالت: بينما رسول اللَّه ( يزورنا إذ وضع رأسه؛ لينام ساعة القيلولة، فاستيقظ فجأة وهو يبتسم، فقالت: لم تضحك يا رسول الله؟ قال: " ناس من أمتى يركبون البحر الأخضر فى سبيل الله، مثلهم مثل الملوك على الأِسّرة " فقالت: يا رسول الله، ادعُ اللَّه أن يجعلنى منهم . قال: "اللهم اجعلها منهم".ثم عاد فضحك فقالت له مثل ذلك، فقال لها مثل ذلك، فقالت: ادع الله أن يجعلنى منهم. قال: "أنت من الأولين ولست من الآخرين" [البخاري].
وقالت: سمعت رسول اللَّه ( يقول: "أول جيش من أمتى يغزون البحر قد أوْجبوا".
قالت: يا رسول اللَّه أنا فيهم؟
قال: "أنت فيهم". ثم قال النبي

فقالت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: "لا" [البخاري]. وكانت تلك نبوءة تنبأ بها رسول اللَّه (ص) إنها أم حرام بنت ملحان الخزرجية الأنصارية، أخت الرُّمَيْصَاء أم سليم -رضى اللَّه عنهما-. تزوجها عمرو بن قيس -رضى الله عنه- فأنجبت له قيسًا وعبدالله، وظلت مع عمرو بن قيس حتى كانت غزوة أحد، فاستشهد عمرو وولده قيس، فتزوجها عبادة بن الصامت -رضى الله عنه- فعاشت فى كنفه مطيعة راضية.
وكان لأم حرام شغف بالجهاد فى سبيل اللَّه، وباعٌ طويل فيه؛ فقد خرجت مع زوجها عبادةَ إلى الشام فى جيش كان قائده معاوية ابن أبى سفيان -رضى اللَّه عنه- فلما جاز معاوية بجيشه البحرَ، كانت أم حرام تركب دابة لها، فجالت بها الدابة، فصرعتها وقتلتها، وذلك فى غزوة "قبرص"، وهكذا تحققت نبوءة النبي ( ص) لها.
توفيت أم حرام فى خلافة عثمان بن عفان -رضى الله عنه- سنة 28 هجرية، ودفنت فى مكان مَقْتَلِها (بجزيرة قبرص)، وكان الناس كلما مَرّوا بقبرها يقولون: هذا قبر المرأة الصالحة. وروت السيدة أم حرام -رضى الله عنها- بعضًا من أحاديث رسول الله (.صلى الله عليه وسلم).. صحابية أنصارية كانت لها ولعائلتها مكانةٌ مميزةٌ عند رسول الله صلى الله وسلم عليه، أختها هي الصحابية الجليلة أم سليم الأنصارية الملقبة بالغُمَيْصَاءُ أو الرُّمَيْصَاءُ، والدة أنس ابن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخواها سُليم ابن ملحان وحرام ابن ملحان. استشهدا في سبيل الله يوم بئر معونة، أما زوجها الأول فهو الصحابي الجليل عمرو بن قيس استشهد هو وولدها قيس بن عمرو في غزوة أُحد، فتزوجها الصحابي الجليل عبادة ابن الصامت أحد نقباء الإثني عشر الذين اختارهم الأنصار يوم العقبة الثانية بناء على طلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، هذه العائلة الجليلة هي من أنصار المدينة المنورة، الذين تسابقوا إلى بذل الغالي والرخيص في سبيل الله تعالى ولنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لنبدأ بسيرة تلك الصحابية من حادثةٍ مفصليةٍ في حياتها، كان ذلك سنة ثلاثة وعشرين للهجرة كانت أم حرام آنذاك امرأةً كهلةً مسنةً تركب البحر مع زوجها عُبادة ابن الصامت وبعض صحابة النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو ذر الغفاري وأبو الدرداء و شداد ابن أوس وغيرهم، كانت تلك أول مرة ترى فيها أم حرام البحر، هذا المخلوق البديع العجيب الرهيب، الذي يُرى أوله مالا يًُرى آخره، تتلاطم الأمواج فيه لتصل أحيانًا إلى ارتفاع أعلى من ارتفاع البيت الذي تسكنه أم حرام، تعيش فيه مخلوقات غريبة عجيبة مختلفة الأحجام والألوان، ينبت في قاعه نباتٌ يختلف عما تعرفه أم حرام من نباتات اليابسة.
تذكرت أم حِرام وصف عمرو بن العاص للبحر حين كتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائلًا: "صف لي البحر وراكبه فإن نفسي تنازعني إليه"، كان معاوية ابن أبي سفيان قد استأذنه في ركوب البحر في نشر دين الله تعالى في الجزر المبثوثة فيه ولذلك سأل عمر عمرًا بن العاص، فقال عمرو ابن العاص: "يا أمير المؤمنين إني رأيت خلقًا كبيرًا يركبه خلقٌ صغير ليس إلا السماء والماء، إن ركد خرق القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول، الناس فيه كدودٍ على عود، إن مال غرق، وإن نجا فرق". فلما قرأ أمير المؤمنين عمرو بن الخطاب وصف عمر للبحر بهذا الوصف، كتب إلى معاوية: "والذي بعث محمدًا بالحق لا أحمل فيه مسلمًا أبدًا". تمتمت أم حرام: لله درك يا عمر والله لم يعدو البحر بما وصفته به، فجأة هبت رياحٌ قوية حركت القارب الذي يضم أم حرام وزوجها يمنةً ويسرةً في حركةٍ عشوائيةٍ، وبدأت أمواج البحر تعلو وتهبط، تخيلتها أم حرام وكأنها ماردٌ عملاق يريد التهام فريسته، فنظرت بفزعٍ إلى بقية القوارب التي يستقلها باقي الصحابة وقد قذفتها الريح كريشةٍ صغيرةٍ، لا تملك لنفسها حولًا ولا قوةً، تمسكت بزوجها عبادة وقلبها يطرق بشدة، صاح عبادة بمن في القارب: تمسكوا بالحبل جيدًا، وإلا قذفتنا الأمواج خارج القارب. لم تعد أم حرام تسمع أو ترى شيئًا مما يجري حولها، فقد أغلقت عينيها وسبحت في مناجاة روحانية لربها الإله القادر المقتدر، خالق البحر والسماء والشمس والأرض. كانت تدرك أنها بهذا، وبهذا فقط تستطيع أن تصبر وتثبت وتتماسك، فهو وحده القادر على معونتهم، وعلى إيصالهم إلى بر السلام بسلام، ولكن ماذا كانت أم حرام ومن معها يفعلون في البحر؟
ذات يومٍ زار النبي صلى الله عليه وسلم آل حرام في بيتهم في قباء وكثيرًا ما كان يزورهم، فلما حان وقت قيلولته فرش له زوجها عبادة فراشًا فاضطجع عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذته سنةٌ من النوم ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت أم حرام: "ما يضحكك يا رسول الله؟" قال: «رأيت ناس من أمتي عرضوا علي غزاةً في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر مثل الملوك على الأسرة، لمعت عينا أم حرام وقالت بصوتٍ ضارع: ادعو الله يارسول الله أن يجعلني منهم، رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه ودعا لأم حرام أن تكون مع هؤلاء المجاهدين، ثم أغمض عينيه وأخذته سنةٌ من النوم مرةً أخرى، استيقظ إثرها وهو يضحك، رددت أم حرام: ما يضحكك يارسول الله؟ أجابها: ناس من أمتي عرضوا علي غزاةً في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر مثل الملوك على الأسرة وقد وجبت لهم مغفرة الله تعالى، هتفت أم حرام بضراعة: ادعو الله يارسول الله أن يجعلني منهم، أجاب صلى الله عليه وسلم مبتسمًا: أنت منهم يا أم حرام، أنت منهم، أنت من الأولين» (صحيح مسلم [1912]).
"صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله، هاهي نبؤتك تتحقق وها أنذا أركب البحر لأغزو في سبيل الله"، هكذا رددت أم حرام في سرها، وقد زال ما في قلبها من خوف واضطراب وحل محله السكينة والطمأنينة والشوق، أجل الشوق، فهي في شوق للوصول إلى قبرص، تلك الجزيرة القابعة في وسط البحر والتي أخضعها الرومان قسرًا لإمبراطوريتهم الغاشمة ومارسوا على أهلها صنوف الأذى والاستبداد، كم تتوق أم حرام إلى نشر دين الله بين أبناء تلك الجزيرة وإلى تحرير أهلها من ظلم الرومان، فتحت عينيها ونظرت حولها فإذا الريح قد سكنت والقوارب قد استقرت على سطح البحر، اقتربت من زوجها وهمست في أذنه: متى سنصل يا عبادة، متى؟ أجابها: نحن بحاجة إلى يومين أو ثلاثة حتى نصل.
رددت: ماذا! يومان أو ثلاثة؟ إذن ما يزال أمامها وقت طويل لتطأ قدماها جزيرة قبرص، أتراها تبلغ ذلك اليوم أم أن أمواج البحر قد تحول بينها وبين بلوغ مأربها، اعترتها قشعريرة عندما تخيلت الأمواج المتلاطمة تبتلعها إلى جوف البحر لتصبح قوتًا لمخلوقاته العجيبة، تذكرت أم حرام الجهد الذي بذله معاوية بن أبي سفيان والي دمشق في إقناع أمير المؤمنين عثمان بن عفان بركوب البحر من أجل نشر دين الله، كانت حجة خليفة الله عثمان في الامتناع عن الموافقة كحجة سلفه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب التي تتلخص في الخوف على جيش المسلمين من مخاطر ركوب البحر هذا المخلوق العجيب الرهيب، لكن عثمان رضي الله عنه وافق على ذلك أمام إلحاح معاوية ولكنه اشترط عليه ألا يجبر أحد من المسلمين على الخروج في تلك الغزوة، بل يترك الأمر لاختيارهم ورغبتهم.
وافق معاوية على الشرط وأعد أسطولًا بحريًا مؤلفًا من عددٍ كبيرٍ من القوارب، وأعلن بين المسلمين عن نيته في المسير إلى قبرص لفتحها ونشر دين الله فيها، انطلق المجاهدون في سبيل الله إلى قبرص، يخوضون البحر الأبيض المتوسط بقيادة عبد الله بن قيس، بعضهم انطلق من الشام وبعضهم الآخر انطلق من مصر، طبعًا لا يمكن لأم حرام أن تنسى ذلك اليوم أبدًا، كيف تنساه وقد انتظرته سنواتٍ طويلة، وبالتحديد منذ تلك الرؤية التي رآها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في بيتها، والبشرى التي زفها إليها قائلًا: «أنت منهم يا أم حرام، أنت منهم»، رفعت أم حرام يديها إلى ربها تشكره أنه أنالها شرف السبق لخوض البحر جهادًا في سبيل الله تعالى، وتدعوه أن يجعلها مما قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «أول جيشٍ من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا، أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفورٌ لهم» (صحيح الجامع [2562])، لم تجبن تلك النساء عن ركوب البحر فكل المخاطر في نظرهن تهون مادام في ذلك رضائهم لله تعالى ورضاءٌ لرسوله.
لنا هنا وقفة مع أم حرام رضي الله عنها، نعقد فيها مقارنة بينها وبين ما عليه حال كثيرٍ من نسائنا اليوم، تولد الواحدة منهن وتعيش وتموت دون أن يكون لها رسالةٌ سامية تعمل وتكدح من أجلها، لا هم لها إلا أن تأكل وتشرب وتتناسل، بعضٌ آخر من النساء يملكن رسالةً وهدفًا في الحياة، لكن إحداهن للأسف لا تعرف كيف تخطط للوصول إلى ما تطمح إليه، أيامها كلها سواء، السنوات كالشهور، والشهور كالأيام، الأيام تمر تلو الأيام والفوضى، وتضيع الوقت، سيد الموقف المتحكم بالحياة، وأختنا الكريمة تكتفي بالأمان والأحلام التي لا تثمر ولا تغني من جوع، هاتيك النساء ينطبق عليهن قول الشاعر:
قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم ....... وعاش قومٌ وهم بالناس أمواتُ
والحقيقة أن حياة المرء لا تقاس بالسنوات والشهور والأيام، بل بمدى ما يحققه من إنجازات وبمقدار ما يتركه من بصمات لا تموت بموته، ولا تزول بزواله، زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بناته وصحابياته رضي الله عنهن، يمتلكن رسالةً وهدفًا وضعنه نُصب أعينهن وسَعين جاهدات لتحقيقه والنهوض للوصول إليه، لذا نرى ذكراهن ما تزال إلى اليوم مشعة ونابضة في الحياة، رغم أن الموت اختطف أجسادهن وغيبهن تحت الثرى منذ أمدٍ بعيد، وفي ذلك يقول الشاعر:
دَقَّاتُ قلبِ المرءِ قائلة ٌ له ..... إنَّ الحياة َ دقائقٌ وثواني
فارفع لنفسك بعدَ موتكَ ذكرها ...... فالذكرُ للإنسان عُمرٌ ثاني
أليس حريٌ بنا أخواتي أن تتساءل إحدانا، أين أنا اليوم وأين أريد أن أكون في المستقبل، ربما كلنا نعرف أين نحن الآن، ولكن معظمنا لا يعرف ماذا يريد أن يكون؟ ماهي رسالته في الحياة؟ وماهي مخططاته لتحقيق تلك الرسالة؟ قرأت مقولةٌ أعجبتني قيلت على سبيل السخرية من الذين لا يعرفون ماذا يريدون أن يفعلوا في حياتهم، تقول هذه المقولة: إذا أردت أن تصل إلى أي مكانٍ لا على التعيين، فليس عليك بذل جهدًا كبير فقط امش بضع خطوات في أي اتجاه ستصل بعد دقيقة واحدة، أما إذا كنت تريد الوصول إلى مكانٍ معين، فعليك أن تعرف أين أنت الآن وإلى أين تريد أن تذهب وكيف يمكن أن تصل. يشبه البعض الشخص الذي لديه رسالة ورؤية لتحقيق تلك الرسالة بقبطان يقود سفينته في خضم البحار، يعرف الموانئ الجيدة وغير الجيدة، يعرف أماكن القراصنة ويستطيع أن يبتعد عنها ولديه خريطة وبوصلة تهديه وتوضح له الطريق، أما الشخص الذي لا يملك رسالة ولا مخطط فهو كالقبطان التائه لا يدري كيف سيسر ولا يعرف الموانئ ولا يملك خريطة تنجيه ولا يملك بوصلة تهديه، لا يرى حوله إلا ماءً وسماءً، قبطانٌ كهذا إخوتي هل يمكن له أن يصل بسفينته إلى حيث يريد؟ هل ينجو من غدر البحار؟ لا أظن ذلك! علماء النفس يقولون: الشخص الذي ليس لديه رسالة معرض لهزات اجتماعية ونكبات مالية واضطرابات نفسية، لا يمكن لشخص كهذا ليس لديه رسالة ولا هدف، لا يمكن أن يكون سعيدًا ولا ناجحًا، عندما يعرف الإنسان ماذا يريد وكيف يصل إلى ما يريد تتولد في نفسه طمـأنينة داخلية، وهذه الطمأنينة مفتاحً من مفاتيح السعادة رغم ما قد يعترض صاحبها من مشاكل جسدية.
السعادة لا تنال بالمال ولا بالعقارات ولا الشركات ولا النزهات ولا حتى بالشهرة والإطراء، السعادة الحقيقية هي في داخل الإنسان في أعماق نفسه البشرية، هي شيءٌ معنوي، لا يُرى بالعين ولا يُقاس بالكم، لا تحتويه الخزائن ولا يمكن له أن يُشترى بالمال، السعادة الحقيقية لا ينالها المرء ولا يحصل عليها إلا إذا كانت رسالته وأهدافه وفقًا لما يرضي عنه الله تعالى ورسوله، يقول الله تعالى في هذا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِين} [يوسف:108].
نعود إلى أم حرام، لنراها فرحةً مستبشرةً وقد اقتربت القوارب من ساحل قبرص، قلبها يخفق بشدةٍ لشدة الفرح، ها قد جاء اليوم الذي ظلت تنتظره أكثر من ثمانية عشر عامًا، شهدت أم حرام الصلح الذي جرى بين المسلمين وأهل قبرص، ومكث الجيش الإسلامي في قبرص مدة من الزمن تمكن فيها المسلمين من أن يبينوا لأهل قبرص من تعليمهم الدين الجديد المكمل للرسالات السماوية السابقة، رسالة إبراهيم وموسى وعيسى عليهم صلوات الله وسلامه، وعندما نادى المنادي بالرحيل، توجه المسلمون من جديد إلى ساحل البحر ليركبوا قواربهم صوب بلادهم عائدين، كانت أم حرام تركب على ظهر بغلةٍ شهباء وتسير قرب زوجها عبادة ضمن قافلة المتوجهين إلى ساحل البحر في قبرص، سمع زوجها عبادة تردد بحبور: الحمد لك يا الله، الحمد لك يا رب أن بلغتني دعوة نبيك وشرفتني بتبليغ دينك، ثم أردفت تدعو بدعائها المعتاد الذي كانت تدعو به عقب كل صلاة: اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك وثواب الشهداء، ردد عبادة خلفها: اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك وثواب الشهداء، وهو يتذكر ماعلمهم إياهم النبي صلى الله عليه وسلم في يومٍ من أيام الصحبة الجميلة الفريدة، «من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله الشهادة وإن مات على فراشه» (صحيح مسلم [1909]).
لا أحد يدري كيف حدث ما حدث، فجأة جفلت بغلة أم حرام، ورفعت قوائمها الأمامية وهي تصدر أصواتًا غريبة، وقعت أم حرام من على ظهر البغلة، هرع عبادة إلى زوجته ليساعدها، كانت تتأوه من الألم، وضع رأسها المدمى على ركبيته وهو يصيح بأصحابه ليحضروا من يعالجها، كانت أم حرام فاقدة للوعي، والدم يسيل من رأسها بغزارة، ضمها عبادة إلى صدره وتمازجت دموعه مع دمائها، فتحت عينيها بصعوبة، ونظرت إليه نظرات ذات مغزى، ثم رددت بصوتٍ متقطع: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، وفاضت روحها إلى بارئها في ذلك المكان النائي عن الديار، وقد شاءت إرادة الرحمن أن تنال أم حرام ثواب الشهادة في سبيل الله على الرغم من أنها لم تشهر سيفًا ولم تقاتل أحدًا. نعم ماتت شهيدةً وهي تجاهد في سبيل الله جهاد الدعوة وتبليغ الرسالة، لا تنحصر الشهادة كما علمنا سابقًا في شهيد المعركة، بل هناك شهداء لم تطأ أقدامهم أرض المعركة ومع ذلك يكتب لهم ثواب الشهادة، مِصداقًا لحديث الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد» (صحيح مسلم [1915]). توقف الجيش عن المسير إكرامًا لتلك الصحابية الجليلة وشيع جثمانها إلى مثواه الأخير، بعد أن غُسلت وكُفنت وصُلي عليها، هناك في أرض قبرص، ضم ترابها جسد الصحابية الشهيدة، وانحنى الزوج أمام قبر الحبيبة كأنه يهمس لها في شيء، لاحت في ذاكرته نظراتها الأخيرة، فهم منها أنها توصيه بالصبر، وفهم منها شيئًا آخر، تمتم في خشوع: موعدنا الجنة بإذن الله يا أم حرام، موعدنا الجنة، عاد الجيش أدراجه وبقي قبر أم حرام هناك في قبرص، يذكر المسلمين إلى قيام الساعة بما تحمله سلفهم الصالح من مشاق وما تكبده من مصاعب وأهوال في سبيل نشر دين الله تعالى.
بإمكان كل من يزور قبرص اليوم أن يزور قبر تلك الصحابية الجليلة، ولو أنه توقف هناك وأصغى السمع قليلًا، لربما سمعها تعاتبه وتلومه، محتوى العتاب يتوافق مع قول الشاعر لأمة الإسلام:
يا أمتي، يا أمتي كل شعب قام يبني ..... نهضةً وأرى كنيانكم منقسمًا
في قديم الدهر كنتم أمةً ..... لهف نفسي كيف صرتم أممًا
إخوتي الكرام، إن زرتم قبرص فتذكروا الصحابية الجليلة أم حرام رضي الله عنها، واقرؤوا الفاتحة على روحها الطاهرة، وادعوا الله تعالى أن يوفق المسلمين إلى استعادة مجدهم التليد الذي أضاعوه بأيديهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق