الثلاثاء، 16 يونيو 2020

قصيدة بعنوان/(تحرير القدس. )/بقلم الكاتب الاديب الراقي /الشاعر المبدع/د. صالح العطوان الحيالي

تحرير القدس..مرحلة ضرورية لبناء الحضارة الاسلامية وسيادة المشروع الحضاري الإسلامي
ـــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق- 4- حزيران 2020
حظيت مدينة القدس، وما تزال، بمكانة عظيمة في التاريخ الإنساني، وتميزت بخصوصية الزمان والمكان. فهي في الزمان ضاربة جذورها منذ الحضارة العربية الكنعانية، أما بالنسبة لخصوصيتها المكانية، فقد شملت الموقع والموضع، فكانت ملتقى الاتصال والتواصل بين قارات العالم القديم، تعاقبت عليها الحضارات، وأَمّتها الجماعات البشرية المختلفة، مخلفة وراءها آثارها ومخطوطاتها الأثرية، التي جسدت الملاحم والحضارة والتاريخ، دلالة على عظم وقدسية المكان.
ولابد أن يكون لمثل هذه الظاهرة الحضارية الفذة أسباب ومبررات، هي سر خلودها واستمرارها آلاف السنين، رغم كل ما حل بها من نكبات شوحروب أدت إلى هدم المدينة، وإعادة بنائها ثماني عشرة مرة عبر التاريخ، وفي كل مرة كانت تخرج أعظم وأصلب وأكثر رسوخا من سابقتها، دليلا على إصرار المدينة المقدسة على البقاء، فمنذ أن قامت (القدس الأولى) الكنعانية قبل نحو 6000 سنة، وهي محط أنظار البشرية، منذ نشأت الحضارات الأولى في (فلسطين ووادي النيل والرافدين)، مروراً بالحضارة العربية الإسلامية، وحتى يومنا هذا.
يقدر علماء الآثار أن تاريخ مدينة القدس يرجع إلى حوالي ستة آلاف سنة، كما أكدت الحفريات التي قامت عليها المدرستان: الفرنسية، والبريطانية، برئاسة الأب "ديفو" وبانضمام "رويال أنتوريا" برئاسة الدكتور "توستينج هام"، ومشاركة جامعة "تورنتو" في كندا عام 1962، حيث اعتبرت هذه البعثة، أن ما تم التوصل إليه خلال موسم الحفريات من نتائج عن تاريخ مدينة القدس، لا تعدو كونها معلومات مزيفة، تعيد صياغة تاريخ القدس وفقاً لما ورد في التوراة، التي تقصر تاريخ المدينة المقدسة على ثلاثة آلاف عام
تحرير القدس تحتل القدس مكانة مهمة في الإسلام، عقيدة وحضارة وثقافة وتاريخًا؛ لذلك كان تحريرها من الاحتلال الروماني مرحلة مهمة في تاريخ الحضارة الإسلامية. وفي تطور المشروع الإسلامي لتحرير البشرية. في ضوء ذلك يمكن أن نفهم دلالات أحداث معينة، وندرك رموزها ونفسرها، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه قام بعزل خالد بن الوليد وتولية "أبو عبيدة عامر بن الجراح" ليكمل مهمَّة الفتح!
وحار المؤرخون في تفسير هذا القرار.. لكننا يمكن أن نفهم الآن دلالات جديدة ومهمة؛ ذلك أن تحرير القدس ليس مجرد عمل عسكري. وهذه المعركة ليست معركة جيوش وأسلحة وبطولات وتضحيات فقط، ولكنها مرحلة ضرورية لبناء الحضارة الإسلامية، وسيادة المشروع الحضاري الإسلامي.
لذلك فمع كل التقدير والاحترام والاعتزاز ببطولات خالد وقدرته العسكرية المتميزة، إلا أن تلك المعركة كان لا بُدَّ أن يقودها فقيه وعالم وأمين الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح. لقد كان أبو عبيدة هو خير من يمثل المشروع الحضاري الإسلامي بكل جوانبه.وليس من الجانب العسكري فقط؛ لذلك كان لا بد أن يعود القائد العسكري مع الاعتراف بكفاءته ليكون جنديًّا، وليتقدم أمين الأمة ليقود المعركة دليلًا على أهمية القدس، وتوجيهًا للأمة؛ لكي تظل القدس دائمًا في قلب مشروعها الحضاري.
فهي لا يمكن أن تبني النهضة وتحقق التقدم، وتحمي الحرية، وتقوم بوظيفتها الإنسانية والحضارية إلا إذا كانت القدس محررة، يحميها الإسلام كمدينةٍ لها دور حضاري عالمي. كما أن تحرير القدس شرف للأمة، وبرهان على تميزها الحضاري وقوتها الأخلاقية، وأنها صاحبة رسالة وأمينة على قصص الأنبياء وتاريخهم وتراثهم، وعلى عقيدة التوحيد باعتبارها رسالة جميع الأنبياء.
لا تخضع لظالم
شكلت فلسطين والقدس خط الدفاع الأول عن الإسلام وبلاد المسلمين، واستمدت المدينة أهميتها الدينية عند المسلمين، ليس لأنها ذات أصول عربية كنعانية فحسب، بل لأنها مهد الرسالات أيضا، فمنها عرج رسول الله "محمد" صلى الله عليه وسلم إلى السماوات السبع وتكلم إلى ربه، وتم فرض الصلوات الخمس على المسلمين، ثم العودة من السماوات العلى إلى بيت المقدس ومنها إلى مكة المكرمة.
فلم يختر الله سبحانه وتعالى بيت المقدس مكاناً لإسراء نبيه، عبثاً، ولكنها مشيئة إلهية سماوية رسمت منذ ذلك التاريخ وإلى الأبد، علاقة ملايين المسلمين بهذه البقعة المقدسة من الأرض، وهي بالنسبة لهم من أقدس المقدسات، وهي المكان الذي يحجون إليه، فهو قبلتهم الأولى وثالث الحرمين الشريفين بعد الكعبة المشرفة ومسجد النبي في المدينة المنورة.
لقد بدأ رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد الجهر بالدعوة الإسلامية وانتشارها، بتوجيه أنظار المسلمين وقلوبهم إلى مدينة القدس، مدركا أهميتها الدينية والروحانية لدى المسلمين، فبعث في جمادى الأول سنة ثمان للهجرة أول قوة إسلامية إلى بلاد الشام، وجعل على رأس هذه القوة، التي لا تزيد على ثلاثة آلاف مقاتل زيد بن حارثة.....
سارت القوة إلى بلاد الشام للاشتباك بجيوش الروم، حيث علم المسلمون أن "هرقل" قد حشد في مؤاب بأرض كنعان، مائة ألف من الروم، وانضم إليهم مثل هذا العدد من القبائل العربية المجاورة، فدب التوتر في نفوس المسلمين، وفكروا في أن يطلبوا النجدة من رسول الله "محمد"، إلا أنهم آثروا الاشتباك مع جيوش الروم؛ طلباً للنصر أو الشهادة في سبيل الله لدخول الجنة.
زحف المسلمون إلى الشمال، حتى قابلتهم جموع الروم في مؤتة بالقرب من مدينة الكرك في الأردن، ودارت رحى المعركة غير المتكافئة، وما لبث أن انسحب جيش المسلمين لإنقاذ القوة من فناء أكيد، وكانت هذه الحادثة بمثابة الاختبار الأول للمسلمين وإرادتهم الشجاعة في تحرير بيت المقدس، واستعدادهم التام للتضحية والفداء من أجل القدس.
أمر الرسول الكريم بتجهيز جيش يقوده "أسامة بن زيد"؛ للانتقام لشهداء مؤتة، وانتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى وجيش أسامة يتأهب للسير شمالاً، فأمر الخليفة أبو بكر الصديق أن يواصل جيش أسامه سيره ويحقق المهمة التي كلفه بها رسول الله، واشتبك جيش أسامه مع القبائل العربية التي ساندت جيش الروم ضد قوة المسلمين، ولقنها درساً، وعاد إلى المدينة المنورة.
وبعد أن انتهى الخليفة "أبو بكر الصديق" من حروب الردة، في أعقاب وفاة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم- وبعد أن تم تدعيم أركان المسلمين، أعدّ جيشاً لغزو بلاد الشام وتحرير بيت المقدس، وقدر عدد الجيش بأربعة وعشرين ألفاً من جنود المسلمين الأشداء، وزحف جيش المسلمين شمالاً وحارب الروم في معارك جانبية إلى أن وصل مشارف دمشق في "حوران".
أما الروم فقد تجمعوا استعداداً للمعركة الحاسمة في وادي اليرموك، الفاصل بين سورية والأردن، بعدد يقدر بعشرة أضعاف جيش المسلمين، ومن ناحية أخرى قدم خالد بن الوليد على رأس جيش مجهز، وتوحد الجيش بقيادة "خالد بن الوليد"، ودارت المعركة الفاصلة وكان النصر حليف المسلمين في اليرموك، وبعد ذلك اتجه جيش المسلمين إلى دمشق، حيث حاصرها، وتم فتحها، وهزم الروم شر هزيمة.
وبعد أن فرغوا من بلاد الشام، وجهوا جزءاً من قواتهم إلى فلسطين، وفتحوا مناطق عديدة منها وحاصروا إيلياء (القدس) زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، واستمات الروم في الدفاع عن بيت المقدس، بيد أن الدين الجديد وما يزرعه في نفوس قواته، قد انتصر على عناد الروم، ودب الضعف في نفوسهم.
ولما اشتدّ الحصار على بيت المقدس سنة 636م، ظهر البطريرك "صفرونيوس" من فوق أسوار المدينة وقال لهم: "إنا نريد أن نسلم، لكن بشرط أن يكون ذلك لأميركم، فقدموا له أمير الجيش فقال: لا، إنما نريد الأمير الأكبر، أمير المؤمنين، فكتب أمير الجيش إلى عمر بن الخطاب.
فخرج عمر بن الخطاب إلى مدينة القدس، ولما أطلّ على مشارفها وجد المسلمين في استقباله خارج بابها المسمى بباب دمشق، وعلى رأسهم البطريرك "صفرونيوس". وكان عمر على راحلة واحدة ومعه غلامه، فظهر لهم وهو آخذ بمقود الراحلة وغلامه فوقها، وكان عمر قد اشترط على غلامه أن يسير كل منهما نفس المسافة، يركب واحد، والآخر يسير على الأقدام بالتساوي، فعندما وصلا كان دور الغلام وعمر بن الخطاب يأخذ بمقود الراحلة. فبينما رأوه كذلك خروا له ساجدين، فأشاح الغلام عليهم بعصاه من فوق راحلته وصاح فيهم: "ويحكم إرفعوا روؤسكم، لا ينبغي السجود إلا لله، فلما رفعوا رؤوسهم انتحى البطريرك "صفرونيوس" ناحية وبكى، فتأثر عمر وأقبل عليه يواسيه قائلاً: "لا تحزن هون عليك، فالدنيا دواليك يوم لك ويوم عليك"، فقال صفرونيوس: "أظننتني لضياع الملك بكيت؟ والله ما لهذا بكيت، إنما بكيت لما أيقنت أن دولتكم على الدهر باقية ترق ولا تنقطع، فدولة الظلم ساعة ودولة العدل إلى قيام الساعة، وكنت حسبتها دولة فاتحين ثم تنقرض مع السنين".
وتسلم ابن الخطاب مفاتيح القدس من البطريرك "صفرونيوس"، وخطب في تلك الجموع قائلا: "يا أهل إيلياء لكم مالنا وعليكم ما علينا". ثم دعا البطريرك لتفقد كنيسة القيامة، فلبّى دعوته، وأدركته الصلاة وهو فيها، فتلفت إلى البطريرك وقال له أين أصلي؟ فقال: مكانك صل، فقال: "ما كان لعمر أن يصلي في كنيسة القيامة، فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلى عمر ويبنون عليه مسجدا". وابتعد عنها رمية حجر، وفرش عباءته وصلى، وجاء المسلمون من بعده، وبنوا على ذلك المكان مسجداً، وهو قائم إلى يومنا هذا.
ليطمئن قلب عمر
وللبرهنة على صحة ذلك طلب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد الفتح من قائد المعركة أمين الأمة أن يذهب به إلى بيته.. وعندما دخل عمر البيت اطمأنَّ قلبه فلم يجد شيئًا من متاع الدنيا، وجد البيت خاليًا من كل مظاهر الثراء والأبهة. وقال عمر برضا وسعادة: هكذا العهد بك يا أبا عبيدة!!
والعبارة تشير إلى أن عمر كان يعرف جيدًا أبا عبيدة، ويتوقع ما رآه في بيته، فلماذا أراد أن يرى البيت؟! ربما يكون ذلك من تداعيات الموقف.. فلقد ذهب أبو عبيدة ليستقبل عمر، فرآه يلبس ثوبًا خشنًا، ويشمره، وهو يعبر بركةً من ماء بينما غلامه يركب الناقة، فقد جاء دوره في الركوب.
عندئذٍ خاف أبو عبيدة من أن ينظر سكان القدس من النصارى إلى أمير المؤمنين بما لا يليق بمكانته، فأراد أن يتخذ عمر مركبًا ولباسًا يتناسب مع أهميته.. وهنا يتوقف عمر ويقول بحسمٍ: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
لذلك خاف عمر من أن يكون حب الدنيا قد تسلل إلى قلب أبي عبيدة، وأنه أراد أن يحصل على نصيبه المشروع من متعها الحلال. ولكن أليس من حق قائد جيش تحرير القدس أن يأكل لقمة طيبة، وينام على فراش لين؟ إنها متع حلال، والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، فلماذا يتصرف عمر مع أبي عبيدة بهذا الأسلوب؟ لم يكن عمر يريد أن يحرم أبا عبيدة من التمتع بما أحل الله، لكنه كان يريد أن يتأكد من أن القائد الذي اختاره لتحرير القدس لم يركن للدنيا، وأن حب المظاهر والمتع الدنيوية لم تعرف الطريق إلى قلبه، وأن العبودية لله ما زالت هي مصدر عزته وفخره، وأن العمل لإرضاء الله ما زال هو هدفه الوحيد. وأنه ما زال يمثل المشروع الحضاري الإسلامي الذي يستهدف تحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وأن الوظيفة الحضارية للمسلم ما زالت واضحة في نفسه.
طريق التحرير
لذلك فإن الذين يمكن أن يحرروا القدس مرة أخرى هم الذين يعيدون بناء أنفسهم بالإسلام؛ ليكونوا مثل أولئك الجنود الذين وقفوا بعد النصر يأكلون خبزهم الخشن، ويبكون فرحًا وحمدًا وشكرًا لله.
الذين يمكن أن يحرروا القدس هم الذين يحررون أنفسهم من العبودية للدنيا، فلا يكون هدفهم الحصول على متعة دنيوية ولا يأبهون لمظاهرها، ولا يريدون ترفها، ولكنها يعمرونها عبادة لله.
تحرير القدس لا يمكن أن يتحقق إلا بمشروع حضاري إسلامي يعيد للأمة وظيفتها الحضارية والإنسانية؛ فوضوح هذه الوظيفة هو البداية الحقيقية لهذا المشروع، فالأمة بشكل عام لا بد أن تعي وتفهم وتدرك وتعتز بوظيفتها، وكل مسلم لا بد أن يعبر عن اعتزازه بالانتماء للأمة بالتمسك بهذه الوظيفة، وأن تكون الهدف الرئيس لحياته. ومن خلال إدراكه لهذه الوظيفة يحدد أهدافه في الحياة، فهو لا يعيش ليكنز المال، وليكون حارسًا عليه، ولا يحرص على متع الدنيا، فهو يعرف أنه قد جاء الحياة ليؤدي رسالة وليقوم بوظيفة، وليعبد الله ويعمر الأرض عبادة لله، والحياة قصيرة مهما طالت؛ فعمر أطول إنسان معمِّر في هذا العصر لا يزيد على مائة عام. وعندما يطول عمر الإنسان تتكاثر الأمراض، ويضعف الجسد، فلماذا ينسى الإنسان رسالته ووظيفته وهدفه الرئيس وهو إرضاء الله ليحصل على متعة محدودة؟!
كثير هم الذين استعبدتهم الدنيا فكنزوا من الأموال ما لا يستطيعون أن يحصوه أو يتمتعوا به، وجعلوا من أنفسهم حراسًا على هذا المال، وتركوا إخوانهم في غزة يتضورون جوعًا.
وعبيد الدنيا بنوا العمارات الشاهقة والقصور الفارهة، لكن حياتهم تمضي بدون معنى أو هدف، وسيخرجون منها، والأحياء يذكرونهم بكل سوء، والويل لهم من عقاب الله. تُرى ما فائدة كل ما كنزوه من مال، وما تركوه من أصول؟
والكثير من عبيد الدنيا فقدوا أموالهم في الأزمة الاقتصادية؛ لأنهم تركوها مكدسة في بنوك ربوية أقرضتها بفوائد عالية لمن عجزوا في النهاية عن السداد، وهذا عقاب الله I في الدنيا.
والذين شاركوا في فرض الحصار على إخوانهم في غزة إرضاء لأمريكا التي تحمي سلطتهم وأموالهم، سيفقدون الدنيا بعد أن فقدوا هدف الحياة، وسيبتليهم الله بالحزن على ما فقدوه من ثروات.
لذلك فإن أول ما يجب أن يتضمنه المشروع الحضاري الإسلامي هو إعادة الوعي لكل مسلم بوظيفته الحضارية، وبهدف حياته.
الطريق إلى تحرير القدس يبدأ بتحرير الإنسان من العبودية للهوى والدنيا وللطواغيت ليكون عبدًا لله وحده، ويعمر الأرض عبادةً لله، ويساهم في تحرير البشرية من الزيف والضلال.
و"إسرائيل" تعرف جيدًا أن المسلمين سيحررون القدس، ولكن عندما يعودون للاعتزاز بوظيفتهم الحضارية، وعندما يشكل الإسلام حياتهم، وعندما يصبح هدف كل مسلم في حياته هو إرضاء الله، وعندما يكون لهم قادة لا يوجد في بيوتهم من متع الحياة سوى ما يسد الرمق.
وعندما يكون لهم جنود مثل أولئك الذين فتحوا القدس ووقفوا على مشارفها يأكلون خبزهم الخشن ويبكون، وعندما يكون لهم قائد يعتز بالإسلام فقط ولا يبتغي العزة في غيره.
صلاح الدين والقدس
رأى صلاح الدين ألا يتوجه مباشرة لفتح القدس بعد انتصار حطين، وإنما رأى أنه من الأسلم أن يسير لفتح مدن الساحل ومن ثم الهجوم على القدس، فرحل طالبًا عكا وكان نزوله عليها يوم الأربعاء، وقاتل الصليبيين بها بكرة يوم الخميس مستهل جمادى الأولى سنة 583 هـ، فأخذها وأنقذ من كان بها من أسرى المسلمين، وكانوا أكثر من 4 آلاف شخص، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع كونها كانت المرفأ التجاري الرئيسي للصليبيين ونافذتهم على وطنهم الأم في أوروبا. ثم تفرقت الجنود الأيوبية في الساحل يأخذون الحصون والقلاع والأماكن المنيعة، ففتحوا نابلس وحيفا والناصرة وقيسارية وصفورية بعد أن خلا معظمها من الرجال إما لمصرعهم على أرض المعركة أو لوقوعهم في الأسر أو لهربهم من أمام الجيش الأيوبي بعد أن قل عددهم
وصل صلاح الدين إلى المدينة في (15 من رجب عام 583هـ= 20 من سبتمبر عام 1187م) وعسكر أمام أسوارها الشمالية, والشمالية الغربية, وشرع في مهاجمتها لكنه جُوبِه باستحكامات هذا الجانب المتينة المشحونة بالمقاتلين، بالإضافة إلى أشعة الشمس التي كانت تواجه عيون قواته فحجبت عنهم الرؤية الضرورية للقتال حتى بعد الظهر؛ لذلك طاف حول المدينة مدة خمسة أيام يبحث عن مكان يصلح للجيش أن يعسكر فيه إلى أن عثر على موضع في الجانب الشمالي نحو العمود وكنيسة صهيون, حيث الأسوار أقل متانة, فانتقل إلى هذه الناحية في (20 من رجب = 25 من أيلول), وحين حَلَّ الليلُ بدأ بنصب المجانيق.
وتراشق الطرفان بقذائف المجانيق، وقاتل أهل بيت المقدس بحميَّة وكذلك المسلمون، حيث كان كل فريق يرى ذلك دِينًا عليه, وحتمًا واجبًا فلا يحتاج فيه إلى باعث سلطاني.
ولما رأى الصليبيون شدة القتال, وشعروا بأنهم أشرفوا على الهلاك؛ عقدوا اجتماعًا للتشاور، فاتفقوا على طلب الأمان؛ فأرسلوا وفدًا إلى صلاح الدين من أجل هذه الغاية, واشترطوا احترام مَن في المدينة من الصليبيين, والسماح لمن يشاء بمغادرتها.
كانت هذه الشروط هي نفسها التي سبق لصلاح الدين أن عرضها عليهم من قَبْلُ, لكنه رفض قبولها الآن؛ لأنه أوشك أن يفتح المدينة عَنْوَةً, وقال: لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة إحدى وتسعين وأربعمائة من القتل والسبي، وجزاء السيئة بمثلها.
وازداد موقف الصليبيين في الداخل سوءًا, وراحوا ينظرون بقلق إلى المصير الذي ينتظرهم, ولم يسعهم إلا أن يحاولوا مرة أخرى إقناع صلاح الدين بالعفو عنهم, ولكن صلاح الدين سبق له أن أقسم بأنه سوف يفتح بيت المقدس بحد السيف, ولن يحله من قسمه سوى إذعان المدينة بدون قيد أو شرط.
في ذكرى الإسراء تم الفتح :وتجاه هذا الإصرار, وبعد أن استشار مجلس حربه في الموقف, تقرر السماح للصليبيين بمغادرة المدينة مقابل عشرة دنانير عن الرجل يستوي فيها الغني والفقير, وخمسة دنانير عن المرأة, ودينارين عن الطفل, ومن يبقَ فيها يقعْ في الأسر, واشترط أن يُدْفَعَ الفداءُ المفروضُ في مدى أربعين يومًا, ومن لم يُؤَدِّ فداءَه خلال تلك المدة يصبحْ مملوكًا, لكن تبين أن في المدينة نحو عشرين ألف فقير ليس بحوزتهم المبلغ المقرر للفداء؛ فوافق صلاحُ الدين أن يدفع باليان مبلغًا إجماليًّا قدره ثلاثون ألف دينارٍ عن ثمانيةَ عشرَ ألفًا منهم.
استشار صلاح الدين الأيوبي مجلسه وقبل هذه الشروط، على أن يتم دفع فدية على كل من فيها مقدارها عشرة دنانير من كل رجل وخمسه دنانير من كل امرأة ودينارين عن كل صبي وكل صبية لم يبلغ سن الرشد، فمن أدى ما عليه في المهلة التي قدرها أربعين يومًا، صار حرًا. ثم سمح صلاح الدين بعد أن إنقضت المهلة لمن لم يستطع الدفع منهم بالمغادرة دون فدية، دخل صلاح الدين المدينة في ليلة المعراج يوم 27 رجب سنة 583 هـ، الموافق فيه 2 أكتوبر سنة 1187م، وسمح لليهود بالعودة للمدينة، وهو ما دفع سكان عسقلان من اليهود لاستيطان القدس. وأمر بترميم المحراب العمري القديم وحمل منبر مليح من حلب كان الملك نور الدين محمود بن زنكي قد أمر بصنعه ليوضع في المسجد الأقصى متى فُتح بيت المقدس، فأمر صلاح الدين بحمله من حلب ونُصب بالمسجد الأقصى، وأزيل ما هناك من آثار مسيحية منها الصليب الذي رفعه الإفرنج على قبة المسجد، وغُسلت الصخرة المقدسة بعدة أحمال ماء ورد وبُخّرت وفُرشت ورُتّب في المسجد من يقوم بوظائفه وجُعلت به مدرسة للفقهاء الشافعية، ثم أعاد صلاح الدين فتح الكنيسة وقرر على من يرد إليها من الفرنج ضريبة يؤديها.
وقد ابتهج المسلمون ابتهاجًا عظيمًا بعودة القدس إلى ربوع الأراضي الإسلامية والخلافة العباسية، وحضر ناس كثيرون ليسلموا على السلطان ومن هؤلاء الرشيد أبو محمد عبد الرحمن بن بدر بن الحسن بن مفرج النابلسي، الشاعر المشهور، فأنشد صلاح الدين قصيدة طويلة من مائة بيت يمدحه ويُهنئه بالفتح، ومما جاء في القصيدة:
هذا الذي كانت الآمال تَنْتَظِرُ فَلْيوفِ لله أقوامٌ بما نَذَر
هذا الفتوحُ الذي جاء الزمانُ به إليك من هفوات الدهر يعتذرُ
تَجُلّ علياه عن دح يُحيط به وصفٌ وإن نظم المّدَاح أو نثروا
لقد فتحتَ عَصيّاً من ثُغورهمُ لولاك ما هُدَّ من أركانها حَجَرُ
سماحة القائد أم سماحة الإسلام
ومن الأمور اللافتة ما حدث من طلب العادل من أخيه صلاح الدين إطلاق سراح ألف أسير من الفقراء على سبيل المكافأة عن خدماته له مظهرًا بذلك تسامحًا كبيرًا، فوهبهم له؛ وإذ ابتهج البطريرك لذلك, لم يسعه إلا أن يطلب من صلاح الدين أن يهبه بعض الفقراء ليطلق سراحهم، فاستجاب لطلبه, ثم أعلن أنه سوف يطلق سراح كل شيخ, وكل امرأة عجوز, كما ذهب بعيدًا حين وعد نساء الصليبيين بأن يطلق سراح كُلِّ مَن في الأسر من أزواجهن, ومنح الأرامل واليتامى العطايا من خزائنه كل واحد بحسب حالته.
والواقع أن عطف صلاح الدين وسماحته كانت على نقيض أفعال الصليبيين في الحملة الصليبية الأولى؛ إذ كان مثالاً للمسلم المتسامح الذي يعفو من موضع القوة عمَّن أساء إليه، بل ويحسن إليه.
جاهد صلاح الدين طوال حياته لا باحثاً عن مال أو شهرة ووافته المنية بعد ستّ سنوات من تحرير القدس وانتقل إلى رحمة الله مرضياً بعد أنْ أدّى الرسالة والأمانة حاكماً عادلاً‏ً.‏ وترك دولةً تمتدّ من الدجلة إلى النوبة وإلى برقة ودفن بدمشق في ‏(‏مارس ‏1192)‏ ووجدوا في خزائنه ديناراً واحدا وسبعة وأربعين درهماً‏.‏ لأنّه عاش زاهداً بالمال لأنّه في صباه سمع عن خطبة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حذّر فيها المسلمين من الخطر المادي، فرُوِيَ أنّه قال: ‏(ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أنْ تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم)...
رحم الله قادة الاسلام .‏ والتاريخ يعيد نفسه فنزيف الدم العربي يجري بأرض فلسطين واستعمرتها "إسرائيل" وأصبحت خراباً منذ أيار ‏1948‏ وعاد الاستعمار والسيطرة وإراقة الدماء العربية بأرض العراق والعالم العربي غمرته سود الأهاويل وينتظر التحرير والسلام
"إسرائيل" تدرك أن المسلمين سيحررون القدس عندما يعودون لمشروعهم الحضاري الذي يهدف إلى تحرير الإنسانية من العبودية لغير الله، وإعمار الأرض عبادة لله، ولا يعتزون إلا بالانتماء للإسلام، ويتفاخرون بأنهم مسلمون، ويحبون حياتهم فقط من أجل تحرير القدس.
و"إسرائيل" تدرك تمامًا أنه سيأتي ذلك اليوم الذي لن يجد فيه المسلمون ملاذًا سوى الإسلام، وأنهم سيبنون مشروعهم الحضاري الإسلامي الذي يكون أهم أهدافه تحرير القدس ...
المصادر
1 تاريخ الرسل والملوك للطبري
2 - تاريخ دمشق لابن عساكر
3 - فتوح الشام للواقدي
4- فتوح البلدان للبلاذري
5- مغازي الواقدي
6 البداية والنهاية
7- الكامل في التاريخ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق