الرسائل بين عمر بن الخطاب وسعد بن ابي وقاص اثناء توجهه لفتح العراق
ـــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق- 2-11-2019
عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العزَّى القرشي العدوي، هو ذلك الرجل العظيم الذي يعد من أقوى رجال التاريخ شكيمة، وأشدهم بأساً، وأسدهم رأياً، وأبعدهم نظراً، وأعفهم نفساً، وأطهرهم ذمة، وأنقاهم ذيلاً. فحياته جديرة بأن تدرس درساً وافياً دقيقاً؛ إذ كان مثال الشهامة واليقظة والعدل، والإنصاف، والسهر على الرعية، والزهد والتقشف والاستماتة في إيصال الخير إلى كل فرد من أفراد الرعية، لا يحابي كبيراً أو غنياً أو قريباً ولا يستصغر شأن صغير أو فقير
عرف عمر بن الخطاب في شبابه بالشـدة والقـوة، وكانت له مكانة رفيعـة في قومه، إذ كانت له السفارة في الجاهلية، وأسلم في السنة السادسة من البعثة النبوية، وفرق الله تعالى بإسلامه بين الحق والباطل، وشهد جميع الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح الصحابي العظيم الشجاع الحازم الحكيم العادل، صاحب الفتوحات، وأول من لقب بأمير المؤمنين. وقد استمرت خلافته عشر سنين، تم فيها كثير من الفتوحات والإنجازات المهمة، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن علماء الصحابة وزهادهم، وكان قوياً في الحق لا يخشى فيه لومة لائم وكان الفاروق طويلاً مهيباً، كأنه راكب والناس يمشون ، ومما روي في فروسيته رضي الله عنه أنه كان يأخذ أذنه اليسرى بيده اليمنى ويجمع جراميزه باليسرى (أي يرفع ما ينتشر من ثيابه) ويثب على فرسه فكأنما خلق على ظهره
إن عمر بن الخطاب، عبقري من الذين لا يعدون في الزمن الواحد بأكثر من آحاد، قوي الجسد، بائن الطول، تملأ هيبته القلوب، هيبة من قوة النفس قبل أن تكون من قوة الجسد، تشهد العيون أنه معدن العظمة وقوة العبقرية ومتانة التكوين. عادل لأنه قوي، ومستقيم لأنه عادل، وحازم لأنه مستقيم، بطل إذا واجه الأنداد، رحيم مع الضعفاء، يرق للأرملة، وينفخ النار ويحمل الدقيق، ويرحم يهودياً ضريراً، فيأمر له بما يكفيه من بيت المال، يعطف على البهيم الذي لا يحسن الشكاية، ويضرب رجلاً لأنه يُحمّل جمله ما لا يطيق. قوي النفس، بالغ فى القوة النفسية، غيور على الحق، جياش العاطفة، شديد الشكيمة، فطن عليم بخبايا النفوس.. فراسة تكشف الخفايا وتستخرج المعاني، ضرب من استيحاء الغيب واستنباط الأسرار، عادل مفطور على العدل، شديد في الله بلا هوادة، مهيب رائع المحضر.. مفتاح الشخصية هو طبيعة الجندي بكل أبعادها من شجاعة وحزم وخشونة وغيرة ونجدة ونخوة وطاعة ونظام. يصلي فيسوي الصفوف، ويرى الناس متفرقين في المسجد فيأمرهم بإمام واحد، ويحمل الدرة ليذكر المخالفين بهيبة القانون. سمت عسكري بالفطرة، وليس بالأسوة والتعليم، يأمر بتعلم الرمي والسباحة والفروسية والمصارعة. ويقول: إياكم والسمنة، ويأمر بالجد ويمشي شديد الوطء، جهوري الصوت كما يمشي الجنود، يعيش في دنياه عيشة المجاهد، فيؤثر الزهد وعيشة الكفاف، ويقف بين يدي الله وقفة جندي يؤدي الحساب، ذلك هو الجندي فى طبيعته المثلى، الفاروق الذي لهجت بعدله الأجيال
سَعْد بن أَبي وقاص مَالِك القرشي الزهري (23 ق هـ أو 27 ق هـ - 55 هـ / 595 أو 599 - 674م)، أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن السابقين الأولين إلى الإسلام، فقيل ثالت من أسلم وقيل السابع، وهو أوّل من رمى بسهمٍ في سبيل الله، وقال له النبي: «ارم فداك أبي وأمي»، وهو من أخوال النبي، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين اختارهم عمر بن الخطاب ليختاروا الخليفة من بعده.
هاجر سَعْدُ إلى المدينة المنورة، وشهد غزوة بدر وأحد وثَبُتَ فيها حين ولى الناس، وشهد غزوة الخندق وبايع في الحديبية وشهد خيبر وفتح مكة، وكانت معه يومئذٍ إِحدى رايات المهاجرين الثلاث، وشهد المشاهد كلها مع النبي، وكان من الرماة الماهرين، استعمله عمر بن الخطاب على الجيوش التي سَيَّرها لقتال الفرس، فانتصر عليهم في معركة القادسية، وأَرسل جيشًا لقتال الفرس بجلولاء فهزموهم، وهو الذي فتح مدائن كسرى بالعراق. فكان من قادة الفتح الإسلامي لفارس، وكان أول ولاة الكوفة، حيث قام بإنشائها بأمر من عمر سنة 17 هـ، وجعله عمر بن الخطاب في الستة أصحاب الشورى الذين ذكرهم للخلافة بعده، وقال: «هم الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض.» اعتزل سعد الفتنة بين علي ومعاوية، وتوفى في سنة 55 هـ بالعقيق ودُفِنَ بالمدينة، وكان آخر المهاجرين وفاةً
خلف الفاروق عشرات الوصايا والتوجيهات في مجال تدبير الجيش وفي مختلف المجالات وتتضمن خلاصة تجربته وموهبته في الفن والعلم العسكري، وفي مختلف الشئون الحياتية. وتوجيهاته في مجال تدبير الجيش لا يستغني عنها أي قائد عسكري في أي زمان. وهي تكشف بوضوح عن جانب من جوانب شخصيته القيادية. وكانت توجيهاته مصوغة بعبارات مسبوكة محبوكة ملؤها البلاغة وسحر البيان . وهو من أعظم رجال الدنيا بشهادة رسول الله والصحابة ورجال التاريخ من عرب وعجم
فإلى جانب وصيته في القضاء التي ما زالت مبادئها صالحة للتطبيق حتى اليوم في مجال أصول المحاكمات والإثبات والبينات، هناك وصايا مشهورة له في مجال تدبير الجيش، ويأتي على رأس هذه الوصايا ثلاث:
1- وصيته إلى سعد بن أبي وقاص عندما وجهه لفتح العراقين في أصول التعبئة والمسير باتجاه العدو.
2- وصيته إلى أبي عبيدة بن الجراح في قوانين الحرب الواجب التقيد بها في مجال التعامل مع العدو.
3- وصيته إلى قادة الفتوح عند تسليمهم الأعلام بخصوص أخلاقيات الجند
وسنكتفي هاهنا بأهم ما تضمنه كتابه للقائد سعد بن أبي وقاص عندما وجهه لفتح العراق سنة 13هـ، وما تضمنه من نصائح عسكرية قيمة، فهو بمثابة توجيهات صادرة من القائد الأعلى إلى قائد الجيش الميداني، فإنه يبين مدى روعة وعظمة تطور الفن العسكري الإسلامي مقارنة بمفاهيم الحرب الحديثة .
كتابه إلى سعد عندما وجهه لفتح العراق
1- الهدف والغاية:
«أما بعد، فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. وإنما يُنصَرُ المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم. فإذا استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا نُنْصَر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظةً من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شر منا، فلن يُسلط علينا، فرب قوم سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً، اسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم اسأل الله ذلك لنا ولكم».
2- القدرة على المسير:
«وترفق بالمسلمين في مسيرهم، ولا تجشمهم مسيراً يُتعبهم، ولا تُقصر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم يُنقص من قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس والكراع».
3- الوقفات والراحات:
«وأقم بمن معك في كل جمعة يوماً وليلة حتى تكون لهم راحة يُحيون فيها أنفسهم ويرُّمون أسلحتهم وأمتعتهم، ونحِّ منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا يَرْز أحداً من أهلها شيئاً فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها فما صبروا لكم فتولوهم خيراً، ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح».
4- الاستطلاع والأدلاء:
«وإذا وطئت أرض العدو فأذك العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم. وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدقك في بعضه، والفاش عين عليك وليس عيناً لك».
5- عناصر الأمن والمفارز:
«وليكن منك عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم، وتتبع الطلائع عوراتهم وتنق للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك، وتخير لهم سوابق الخيل فإن لقوا عدواً كان أول ما تلقاهم القوة من رأيك واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد والصبر على الجلاد، لا تخص بها أحداً بهوى فيضيِّع من رأيك وأمرك أكثر مما حابيت به أهل خاصتك. ولا تبعثن طليعة ولا سرية في وجه تتخوف فيه غَلَبَة أو ضيعة أو نكاية».
6- القتال التصادمي:
«فإذا عانيت العدو فاضمم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك واجمع إليك مكيدتك وقوتك، ثم لا تعاجلهم المناجزة ما لم يستكرهك قتال حتى تُبصر عورة عدوك وتقاتله وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها فتصنع بعدوك كصُنعه بك، ثم أذْكِ أحراسك على عسكرك وتيقظ من البيات جهدك، والله ولي أمرك ومن معك وولي النصر لكم على عدوكم وهو المستعان».
ولم يكن كتاب عمر السابق هو آخر توجيهات أمير المؤمنين إلى قائد جيشه سعد بن أبي وقاص، وإنما تبادل معه أكثر من سبع رسائل حتى التحم سعد بجيشه مع الفرس في معركة القادسية
أثناء تحرُّك سعد من "شِرَاف" إلى "عذيب الهجانات" أتته الوصية التي كان قد أوصى بها المثنى بن حارثة t قبل وفاته مع المُعَنَّى بن حارثة، وفي الرسالة: لا تقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء، ولا تعبر نهرًا، وَضَعِ الصحراء في خلفك، حتى إذا كان لك النصر انسحت في أرضهم، وإن كانت الأخرى كانت لك الصحراء مجالاً للرجوع.
قبل أن يصل سعد إلى "عُذيب الهجانات" تصله رسالة من عمر بن الخطاب أن يعسكر في القادسية، وقال له: صِفْ لي المكان كأني أراه رأي العين، ولا تدخل على أرض العراق إلا أن يدخلوا هم عليك
يرسل سعد بن أبي وقاص رسالة إلى عمر بن الخطاب يصف له القادسية يقول:
"القادسية مكان بين نهر العتيق وخندق سابور". القادسية هي مكان يقع في الجنوب الغربي للحيرة على أبواب الصحراء، ونهر العتيق هو أحد روافد نهر الفرات يخرج منه متجهًا إلى الغرب، وخندق سابور يقع جنوبي منطقة القادسية، وهو خندق قديم للفرس يحاصر معظم غرب العراق، وفيه بعض الأماكن التي يمكن العبور منها، لكن على كلٍّ منها حصنٌ عظيم لمنع عبور أي مجموعة، وأمام القنطرة الرئيسية للخندق يقع حصن يُسمى "قديس".
يقول سعد
"وعن يمين منطقة القادسية فيض من فيوضهم (أي بحيرة تصل من نهر العتيق وحتى خندق سابور)، وفي شمال القادسية بحر أخضر" أي مستنقع به ماء وشجر كثير.
وعندما وصلت الرسالة إلى عمر قال له: "الزم مكانك".
ثم يقول له: "إذا منحك الله أكتافهم، فلا تتركهم حتى تغزو المدائن فإن في ذلك خرابها، والوفاءَ الوفاءَ، فإن الخطأ في الغدر هلكة (أي يوصيه بالوفاء لأهل القرى التي ما زالت على صلحها مع المسلمين) وفيه (أي الغدر) وَهَنُكم وقوة عدوكم، واحذروا أن تكونوا شينًا على المسلمين".
المصادر
ـــــــــــ
1- محمد رضا، الفاروق عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين، دار الكتب العلمية، بيروت
2- الدكتور علي البدري، قبس من بلاغة الفاروق،
3- العقاد.. عبقرية عمر
4- د. إحسان هندي، رسائل عمر بن الخطاب في تدبير الجيش،
5- بسام العسلي، الفاروق القائد، سلسلة مشاهير الخلفاء والأمراء
6- اللواء محمود بهاء الدين حنفي، من روائع الفن العسكري في صدر الإسلام
7- د. ايمن الجندي - اسلاميات
8- الذهبي- سير اعلام النبلاء
9- البداية والتهاية لابن كثير
10- محض الخلاص في مناقب سعد بن أبي وقاص، لابن المبرد الحنبلي
11- محمد بن سعد البغدادي: الطبقات الكبرى
12- ابن الاثير - اسد الغابة في معرفة الصحابة
13- فصل الخطاب في سيرة ابن الخطاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شخصيته وعصره، د.علي محمد الصلابي
14- صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب قول الرجل فداك أبي وأمي، حديث رقم 5830،
ـــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق- 2-11-2019
عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العزَّى القرشي العدوي، هو ذلك الرجل العظيم الذي يعد من أقوى رجال التاريخ شكيمة، وأشدهم بأساً، وأسدهم رأياً، وأبعدهم نظراً، وأعفهم نفساً، وأطهرهم ذمة، وأنقاهم ذيلاً. فحياته جديرة بأن تدرس درساً وافياً دقيقاً؛ إذ كان مثال الشهامة واليقظة والعدل، والإنصاف، والسهر على الرعية، والزهد والتقشف والاستماتة في إيصال الخير إلى كل فرد من أفراد الرعية، لا يحابي كبيراً أو غنياً أو قريباً ولا يستصغر شأن صغير أو فقير
عرف عمر بن الخطاب في شبابه بالشـدة والقـوة، وكانت له مكانة رفيعـة في قومه، إذ كانت له السفارة في الجاهلية، وأسلم في السنة السادسة من البعثة النبوية، وفرق الله تعالى بإسلامه بين الحق والباطل، وشهد جميع الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح الصحابي العظيم الشجاع الحازم الحكيم العادل، صاحب الفتوحات، وأول من لقب بأمير المؤمنين. وقد استمرت خلافته عشر سنين، تم فيها كثير من الفتوحات والإنجازات المهمة، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن علماء الصحابة وزهادهم، وكان قوياً في الحق لا يخشى فيه لومة لائم وكان الفاروق طويلاً مهيباً، كأنه راكب والناس يمشون ، ومما روي في فروسيته رضي الله عنه أنه كان يأخذ أذنه اليسرى بيده اليمنى ويجمع جراميزه باليسرى (أي يرفع ما ينتشر من ثيابه) ويثب على فرسه فكأنما خلق على ظهره
إن عمر بن الخطاب، عبقري من الذين لا يعدون في الزمن الواحد بأكثر من آحاد، قوي الجسد، بائن الطول، تملأ هيبته القلوب، هيبة من قوة النفس قبل أن تكون من قوة الجسد، تشهد العيون أنه معدن العظمة وقوة العبقرية ومتانة التكوين. عادل لأنه قوي، ومستقيم لأنه عادل، وحازم لأنه مستقيم، بطل إذا واجه الأنداد، رحيم مع الضعفاء، يرق للأرملة، وينفخ النار ويحمل الدقيق، ويرحم يهودياً ضريراً، فيأمر له بما يكفيه من بيت المال، يعطف على البهيم الذي لا يحسن الشكاية، ويضرب رجلاً لأنه يُحمّل جمله ما لا يطيق. قوي النفس، بالغ فى القوة النفسية، غيور على الحق، جياش العاطفة، شديد الشكيمة، فطن عليم بخبايا النفوس.. فراسة تكشف الخفايا وتستخرج المعاني، ضرب من استيحاء الغيب واستنباط الأسرار، عادل مفطور على العدل، شديد في الله بلا هوادة، مهيب رائع المحضر.. مفتاح الشخصية هو طبيعة الجندي بكل أبعادها من شجاعة وحزم وخشونة وغيرة ونجدة ونخوة وطاعة ونظام. يصلي فيسوي الصفوف، ويرى الناس متفرقين في المسجد فيأمرهم بإمام واحد، ويحمل الدرة ليذكر المخالفين بهيبة القانون. سمت عسكري بالفطرة، وليس بالأسوة والتعليم، يأمر بتعلم الرمي والسباحة والفروسية والمصارعة. ويقول: إياكم والسمنة، ويأمر بالجد ويمشي شديد الوطء، جهوري الصوت كما يمشي الجنود، يعيش في دنياه عيشة المجاهد، فيؤثر الزهد وعيشة الكفاف، ويقف بين يدي الله وقفة جندي يؤدي الحساب، ذلك هو الجندي فى طبيعته المثلى، الفاروق الذي لهجت بعدله الأجيال
سَعْد بن أَبي وقاص مَالِك القرشي الزهري (23 ق هـ أو 27 ق هـ - 55 هـ / 595 أو 599 - 674م)، أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن السابقين الأولين إلى الإسلام، فقيل ثالت من أسلم وقيل السابع، وهو أوّل من رمى بسهمٍ في سبيل الله، وقال له النبي: «ارم فداك أبي وأمي»، وهو من أخوال النبي، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين اختارهم عمر بن الخطاب ليختاروا الخليفة من بعده.
هاجر سَعْدُ إلى المدينة المنورة، وشهد غزوة بدر وأحد وثَبُتَ فيها حين ولى الناس، وشهد غزوة الخندق وبايع في الحديبية وشهد خيبر وفتح مكة، وكانت معه يومئذٍ إِحدى رايات المهاجرين الثلاث، وشهد المشاهد كلها مع النبي، وكان من الرماة الماهرين، استعمله عمر بن الخطاب على الجيوش التي سَيَّرها لقتال الفرس، فانتصر عليهم في معركة القادسية، وأَرسل جيشًا لقتال الفرس بجلولاء فهزموهم، وهو الذي فتح مدائن كسرى بالعراق. فكان من قادة الفتح الإسلامي لفارس، وكان أول ولاة الكوفة، حيث قام بإنشائها بأمر من عمر سنة 17 هـ، وجعله عمر بن الخطاب في الستة أصحاب الشورى الذين ذكرهم للخلافة بعده، وقال: «هم الذين توفي رسول الله وهو عنهم راض.» اعتزل سعد الفتنة بين علي ومعاوية، وتوفى في سنة 55 هـ بالعقيق ودُفِنَ بالمدينة، وكان آخر المهاجرين وفاةً
خلف الفاروق عشرات الوصايا والتوجيهات في مجال تدبير الجيش وفي مختلف المجالات وتتضمن خلاصة تجربته وموهبته في الفن والعلم العسكري، وفي مختلف الشئون الحياتية. وتوجيهاته في مجال تدبير الجيش لا يستغني عنها أي قائد عسكري في أي زمان. وهي تكشف بوضوح عن جانب من جوانب شخصيته القيادية. وكانت توجيهاته مصوغة بعبارات مسبوكة محبوكة ملؤها البلاغة وسحر البيان . وهو من أعظم رجال الدنيا بشهادة رسول الله والصحابة ورجال التاريخ من عرب وعجم
فإلى جانب وصيته في القضاء التي ما زالت مبادئها صالحة للتطبيق حتى اليوم في مجال أصول المحاكمات والإثبات والبينات، هناك وصايا مشهورة له في مجال تدبير الجيش، ويأتي على رأس هذه الوصايا ثلاث:
1- وصيته إلى سعد بن أبي وقاص عندما وجهه لفتح العراقين في أصول التعبئة والمسير باتجاه العدو.
2- وصيته إلى أبي عبيدة بن الجراح في قوانين الحرب الواجب التقيد بها في مجال التعامل مع العدو.
3- وصيته إلى قادة الفتوح عند تسليمهم الأعلام بخصوص أخلاقيات الجند
وسنكتفي هاهنا بأهم ما تضمنه كتابه للقائد سعد بن أبي وقاص عندما وجهه لفتح العراق سنة 13هـ، وما تضمنه من نصائح عسكرية قيمة، فهو بمثابة توجيهات صادرة من القائد الأعلى إلى قائد الجيش الميداني، فإنه يبين مدى روعة وعظمة تطور الفن العسكري الإسلامي مقارنة بمفاهيم الحرب الحديثة .
كتابه إلى سعد عندما وجهه لفتح العراق
1- الهدف والغاية:
«أما بعد، فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. وإنما يُنصَرُ المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم. فإذا استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا نُنْصَر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظةً من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شر منا، فلن يُسلط علينا، فرب قوم سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً، اسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم اسأل الله ذلك لنا ولكم».
2- القدرة على المسير:
«وترفق بالمسلمين في مسيرهم، ولا تجشمهم مسيراً يُتعبهم، ولا تُقصر بهم عن منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم يُنقص من قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس والكراع».
3- الوقفات والراحات:
«وأقم بمن معك في كل جمعة يوماً وليلة حتى تكون لهم راحة يُحيون فيها أنفسهم ويرُّمون أسلحتهم وأمتعتهم، ونحِّ منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا يَرْز أحداً من أهلها شيئاً فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها فما صبروا لكم فتولوهم خيراً، ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح».
4- الاستطلاع والأدلاء:
«وإذا وطئت أرض العدو فأذك العيون بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم. وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره وإن صدقك في بعضه، والفاش عين عليك وليس عيناً لك».
5- عناصر الأمن والمفارز:
«وليكن منك عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم، وتتبع الطلائع عوراتهم وتنق للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك، وتخير لهم سوابق الخيل فإن لقوا عدواً كان أول ما تلقاهم القوة من رأيك واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد والصبر على الجلاد، لا تخص بها أحداً بهوى فيضيِّع من رأيك وأمرك أكثر مما حابيت به أهل خاصتك. ولا تبعثن طليعة ولا سرية في وجه تتخوف فيه غَلَبَة أو ضيعة أو نكاية».
6- القتال التصادمي:
«فإذا عانيت العدو فاضمم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك واجمع إليك مكيدتك وقوتك، ثم لا تعاجلهم المناجزة ما لم يستكرهك قتال حتى تُبصر عورة عدوك وتقاتله وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها فتصنع بعدوك كصُنعه بك، ثم أذْكِ أحراسك على عسكرك وتيقظ من البيات جهدك، والله ولي أمرك ومن معك وولي النصر لكم على عدوكم وهو المستعان».
ولم يكن كتاب عمر السابق هو آخر توجيهات أمير المؤمنين إلى قائد جيشه سعد بن أبي وقاص، وإنما تبادل معه أكثر من سبع رسائل حتى التحم سعد بجيشه مع الفرس في معركة القادسية
أثناء تحرُّك سعد من "شِرَاف" إلى "عذيب الهجانات" أتته الوصية التي كان قد أوصى بها المثنى بن حارثة t قبل وفاته مع المُعَنَّى بن حارثة، وفي الرسالة: لا تقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء، ولا تعبر نهرًا، وَضَعِ الصحراء في خلفك، حتى إذا كان لك النصر انسحت في أرضهم، وإن كانت الأخرى كانت لك الصحراء مجالاً للرجوع.
قبل أن يصل سعد إلى "عُذيب الهجانات" تصله رسالة من عمر بن الخطاب أن يعسكر في القادسية، وقال له: صِفْ لي المكان كأني أراه رأي العين، ولا تدخل على أرض العراق إلا أن يدخلوا هم عليك
يرسل سعد بن أبي وقاص رسالة إلى عمر بن الخطاب يصف له القادسية يقول:
"القادسية مكان بين نهر العتيق وخندق سابور". القادسية هي مكان يقع في الجنوب الغربي للحيرة على أبواب الصحراء، ونهر العتيق هو أحد روافد نهر الفرات يخرج منه متجهًا إلى الغرب، وخندق سابور يقع جنوبي منطقة القادسية، وهو خندق قديم للفرس يحاصر معظم غرب العراق، وفيه بعض الأماكن التي يمكن العبور منها، لكن على كلٍّ منها حصنٌ عظيم لمنع عبور أي مجموعة، وأمام القنطرة الرئيسية للخندق يقع حصن يُسمى "قديس".
يقول سعد
"وعن يمين منطقة القادسية فيض من فيوضهم (أي بحيرة تصل من نهر العتيق وحتى خندق سابور)، وفي شمال القادسية بحر أخضر" أي مستنقع به ماء وشجر كثير.
وعندما وصلت الرسالة إلى عمر قال له: "الزم مكانك".
ثم يقول له: "إذا منحك الله أكتافهم، فلا تتركهم حتى تغزو المدائن فإن في ذلك خرابها، والوفاءَ الوفاءَ، فإن الخطأ في الغدر هلكة (أي يوصيه بالوفاء لأهل القرى التي ما زالت على صلحها مع المسلمين) وفيه (أي الغدر) وَهَنُكم وقوة عدوكم، واحذروا أن تكونوا شينًا على المسلمين".
المصادر
ـــــــــــ
1- محمد رضا، الفاروق عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين، دار الكتب العلمية، بيروت
2- الدكتور علي البدري، قبس من بلاغة الفاروق،
3- العقاد.. عبقرية عمر
4- د. إحسان هندي، رسائل عمر بن الخطاب في تدبير الجيش،
5- بسام العسلي، الفاروق القائد، سلسلة مشاهير الخلفاء والأمراء
6- اللواء محمود بهاء الدين حنفي، من روائع الفن العسكري في صدر الإسلام
7- د. ايمن الجندي - اسلاميات
8- الذهبي- سير اعلام النبلاء
9- البداية والتهاية لابن كثير
10- محض الخلاص في مناقب سعد بن أبي وقاص، لابن المبرد الحنبلي
11- محمد بن سعد البغدادي: الطبقات الكبرى
12- ابن الاثير - اسد الغابة في معرفة الصحابة
13- فصل الخطاب في سيرة ابن الخطاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شخصيته وعصره، د.علي محمد الصلابي
14- صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب قول الرجل فداك أبي وأمي، حديث رقم 5830،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق